هذه المدونة

بعد أن هالني حجم الكذب وتعمد قلب الحقائق التي قام بها من هم وراء مسلسل الجماعة، وتوظيف المسلسل لتشويه التاريخ، ومحاولة التأثير على المشاهدين لتكوين صورة مشوهة عن الجماعة ومؤسسها بل عن الإسلام ذاته، حاولت أن أقدم فى هذه المدونة نقلا من مذكرات الإمام حسن البنا وبعض الكتب الأخرى، حقيقة الأحداث التى قدمت بهذا التشويه الفج، وهذا الكذب الذي لا علاقة له بالإبداع على الإطلاق

الأربعاء، 1 سبتمبر 2010

الكذاب يتمادى ويخترع تاريخ على مزاجه

ويستمر كذاب مسلسل الجماعة فى جريمة تزوير التاريخ ببجاحة منقطعة النظير فيخرج علينا فى الحلقة الثالثة والعشرين بثلاث كذبات فاضحة أولها أن الإخوان يدعون أنهم جماعة المسلمين والخارج عليهم خارج على الإسلام!!! والكذبة الثانية ماحدث فى انتخابات 1944 أثناء وزارة أحمد ماهر فيخترع قصص وحكايات غير موجودة فى أي مصدر على وجه الأرض ثم يختم بجريمة لم يسبقه لها أحد وهى أن الإخوان هم من قتلوا أحمد ماهر!!! (طيب النقراشي والخازندار سمعنا عنهم قبل كده!! إنما أحمد ماهر كمان!!! يا مفترى)، هذا غير السم الزعاف فى رسم ملامح شخصية حسن البنا الذي نكتشف فى كل حلقة المزيد من الصفات السلبية والدنيئة التى يحاول هذا الكذاب ببجاحة إلصاقها به.
وطبعا موضوع جماعة المسلمين ده لا يستحق الرد لأنه لا يوجد إلا فى خيالات المتحاملين والجهلة بالإخوان، فقراءة بسيطة فى أي من أدبيات الإخوان تكشف بطلان هذا الإدعاء الكاذب، وتفاصيل انتخابات 1944 موجودة فى العديد من المصادر، نقلت لكم من كتاب أحداث صنعت التاريخ من شهود العيان، وطبعا موضوع قتل أحمد ماهر الذي سيأتي فى الحلقة الخامسة والعشرين إختراع هذا الكذاب سأنقل ما كتب عنه نفس المصدر السابق

محاولة أخري لدخول مجلس النواب :

كان ذلك في أواخر عام 1944 بعد أن استطاع الملك إقالة وزارة الوفد معتمدًا علي ما قدمته له هذه الوزارة من أسلحة بما تورطت فيه من أخطاء مست صميم الشعب في قوته من المأكل والملبس وأقبلت الوزارة وحل مجلس نوابها كالمعتاد ، وأعلن عن انتخابات جديدة لمجلس نواب جديدة ، وقرن هذا الإعلان كالمعتاد أيضًا بالطعن في نزاهة الانتخابات السابقة ، وبأن الانتخابات القادمة ستكون حرة مائة في المائة . وقرر الإخوان دخول هذه الانتخابات بترشيح الأستاذ المرشد في دائرة الإسماعيلية وترشيح عدد آخر من الإخوان في دوائر مختلفة .

كان هناك حرص شديد من الدولة الجديدة علي إبراز هذه الانتخابات في صورة مغايرة لتلك التي كانت عليها انتخابات حكومة 4 فبراير سنة 1942 التي كان من أبرز ما عرف عنها وشوه صورتها منع الأستاذ المرشد العام للإخوان المسلمين من ترشيح نفسه وإرغامه علي سحب هذا الترشيح ،وكان لهذا المنع ضجة في جميع أنحاء البلاد .. ولكن أسلوبًا آخر في الخفاء ومن وراء الكواليس كان يجري حسب مشيئة السادة المستعمرين :- في رسالة بعث بها الصاغ محمود لبيب رحمه الله إلي جريدة المصري في سبتمبر سنة 1950 جاء فيها ما يلي :-

" في وزارة أحمد ماهر باشا أراد المرشد العام أن يرشح نفسه ، فعلمت أنا من أحد أصدقائي أن خطابًا أرسل من السفارة البريطانية إلي أحمد ماهر باشا يطلب فيه منه أن يعمل علي منع المرشد العام والأستاذ البرير (كان من كبار السودانيين الأحرار المقيمين بمصر المؤمنين بوحدة وادي النيل) المرشح في دائرة عابدين من التقدم للانتخابات ... فأسرعت إلي فضيلة المرشد فأبلغته ذلك فضحك واستبعد هذه الفكرة . وفي اليوم التالي طلبه أحمد ماهر باشا لمقابلته فلما قابله طلب منه أن يسحب ترشيحه .. وحاول أن يقنعه فرفض . فقال له : لماذا تتشدد معي وقد قبلت مثل هذا من حكومة النحاس باشا وتنازلت عن ترشيحك ؟ .

فرد عليه بقوله : إن حكومة النحاس باشا كانت تواجه حالة سياسية مضطربة في الداخل والخارج ولم يكن هناك بد – إجابة لداعي الوطنية الكريمة – من أن نقبل منها هذا ؛ إذ كانت الحالة تدعو إلي توحيد الجهود لا إلي توزيعها لوجود الأعداء داخل الأراضي المصرية . يقول الصاغ محمود لبيب : وقد قابلت بعد ذلك علي البرير بك فقال لي إن أحمد ماهر باشا طلب هو الآخر وأطلعه بالفعل علي خطاب السفارة الانجليزية . فلما ووجه القصر ممثلا في هذه الأحزاب بإصرار الإخوان علي ترشيح مرشدهم في الانتخابات وجدوا أنفسهم أمام أمرين أحلاهما مر : ففتح الطريق أمام حسن البنا إلي مجلس النواب كارثة حيث نجاحه في هذه الدائرة أمر لا شك فيه .. كما أن منعه من الترشيح يهدم صرح الدعاية الذي شيدوه علي أساس من الحرية المطلقة التي ادعوا أنهم مما جاءوا ليردوا إلي الشعب ما حرمه الوفد منها .

وظلوا في حيرة من أمرهم حتى اهتدوا إلي الحل الأمثل الذي علمنا أخيرًا أنه إنما جاءهم من عند واضعي أدوار التمثيلية والذين اختاروا ممثليها والذين تكلفوا بإخراجها إلي الجمهور ، وتبين لنا أن واضع الرواية ومخرجها قد تضطره الظروف إلي القيام بنفسه بدور البطولة فيها وإلا فشلت التمثيلية ولم تحقق هدفها .. واتضح أن واضعي التمثيلية وموزعي أدوارها هم المستعمرين الانجليز . وبدا للجمهور علي المسرح أن ترشيح المرشد العام لا يلقي أي اعتراض من الحكومة ونظرًا لما جبل عليه الإخوان من حسن الظن وسلامة الطوية اعتقدوا أن هؤلاء الناس قد راجعوا ضمائرهم ورغبوا في تحسين علاقاتهم بالإخوان والسير في ركب المواطنين الصالحين .

مفاجـأة :

لم يبذل الإخوان أي جهد في الدعاية للمرشد العام في دائرته – كدأب ما يبذل للمرشحين في دوائرهم – لأن أهل الإسماعيلية بعثوا إلي القاهرة بوفود تمثلهم لتقديم شكرهم إلي الأستاذ المرشد العام أن آثرهم علي جميع دوائر القطر بترشيح نفسه في دائرتهم مع أن جميع الدوائر كانت تتمني أن تحظي بترشيحه فيها .. وتكفل أهل الإسماعيلية بدفع التأمين من جيوبهم . ولما جاء يوم الانتخاب فوجئ أهل الإسماعيلية بتدخل الجيش البريطاني في الانتخابات بأن أحضروا أعدادًا كبيرة من العمال الذين يعملون فيه في سيارات وأدي هؤلاء العمال الانتخاب بتذاكر مزورة بأسماء ناخبين أهل الإسماعيلية وهؤلاء جميعًا ينتخبون المرشحين الآخرين . واحتج أهل الإسماعيلية وأهملت السلطات احتجاجاتهم وانتهي يوم الانتخابات . وظهرت نتائج الانتخابات وكانت نتيجة دائرة الإسماعيلية إعادة بين الأستاذ المرشد وبين مرشح آخر .

هنا بدأ الإخوان يفهمون الوضع علي حقيقته حيث بان الخفي ووضح الأمر ، وتبين أن الانجليز تعزيزًا لمركز حكومة السعديين التي يريدونها ، وافقوا علي أن تظهر هذه الحكومة أمام الشعب بمظهر الموافق علي ترشيح المرشد العام علي أن يتكلفوا هم – أي الانجليز – بإسقاطه ويكون ذلك بالطريقة الآتية :

أن يرشحوا ضده أكثر من واحد من المقاولين الذين يعملون معهم في الجيش ... ونظرًا لتوزع قوة الحكومة في جميع دوائر القطر لحفظ الأمن فسيكون جهد الجيش الانجليزي مع قوة الأمن العادية في الإسماعيلية قاصرًا علي عدم إعطاء المرشد العام أغلبية مطلقة من الأصوات ... فيعاد الانتخاب بينه وبين أحد المرشحين الآخرين ، وهنا في الإعادة تتاح الفرصة لحشد أكبر قوة ممكنة من قوات بوليس الحكومة المصرية للتعاون مع الجيش البريطاني تعاونا يكفي لإسقاطه . وينبغي أن يكون معروفًا أن حكمدار – مدير الأمن – في محافظة القنال كان في ذلك الوقت انجليزيًا ،وأن شركة قنال السويس كان مقرها الإسماعيلية ، وأن قيادة جيش الاحتلال البريطاني كان مقرها الإسماعيلية ،وأن عشرات الآلاف من العمال المصريين الذين يعملون في الجيش البريطاني قد أتوا من مختلف بلاد القطر وأكثرهم من الصعيد ،وكان العامل يتقاضي من الجيش البريطاني أجرًا يعادل ضعفي ما يتقاضاه علي نفس العمل في أي مكان في البلاد .

معركة الإعـادة :

من التجاوز في التعبير أن تسمي ما حدث في الإسماعيلية في ذلك الوقت معركة الإعادة أو معركة الانتخابات ؛ فإن الذي حدث كان حربًا أعلنتها الحكومة المصرية متضامنة مع الجيش البريطاني ضد أهل مدينة الإسماعيلية . لقد سافرت إلي الإسماعيلية ضمن عدة مئات من الإخوان من مختلف أنحاء البلاد لنشهد هذه المعركة التي توقعنا أنها ستكون معركة حامية ، لكن الذي رأيناه قد فاق كل ما خطر ببالنا ، ولولا أننا شهدنا بأعيننا لما صدقنا أن يحدث هذا الذي حدث .. وشاء الله أن تكون أكثر بلاد القطر ممثلة لتري بعينها الجريمة التي لم يحدث لها مثيل من قبل ولا أعتقد أن يحدث مثلها من بعد حتى تكون كل البلاد في مصر علي علم بما حدث . ولكي يكون القارئ في مخيلته صورة مصغرة لما حدث فسأضع تحت ناظريه بعض مناظر من أحداث ذلك اليوم .

المنظر الأول : خرج أهل الإسماعيلية منذ الصباح الباكر متجهين إلي أماكن اللجان الموزعة في أنحاء الدائرة ليدلوا بأصواتهم ،ومع كل منهم تذكرته الانتخابية ، فوجدوا أمام مدخل كل لجنة سيارة ضخمة من سيارات نقل الجيش البريطاني تغلق هذا المدخل وتحول بين الناخبين وبين الدخول إلي اللجنة .

المنظر الثاني : كثر عدد الناخبين بمرور الوقت أمام مقار اللجان ، ولما طال انتظارهم ولم تتحرك السيارات المعترضة ، حاولوا اقتحام السيارات للدخول فإذا بقوات ضخمة من بوليس القنال والبوليس المستقدم من القاهرة ومن جهات أخري تعترض طريقهم وفي أيديهم الأسلحة والهراوات .

المنظر الثالث : يلجأ الناخبون إلي الأستاذ المرشد يشكون إليه فيتصل بالمحافظ فيطمئنه المحافظ ولكنه لا يعمل شيئًا فيلجأ إلي الحكمدار الانجليزي فيتز باتريك فيرد عليه بأن عنده تعليمات من الجهات العليا ينفذها .

المنظر الرابع : القوات الضخمة من البوليس فجأة تهاجم الناخبين المحتشدين أمام مقار اللجان وتعمل فيهم هراواتهم وتهددهم بأسلحتهم حتى تبعد بهم بعض الشيء عن مقار اللجان . ثم تطوقهم تطويقًا محكمًا . وهنا تري ناقلات ضخمة من ناقلات الجيش البريطاني قادمة وهي محملة بعمال الجيش البريطاني ، وفي سرعة جنونية تتجه إلي مقار اللجان ، وتكون السيارات المعترضة للمداخل قد أفسحت الطريق فتدخل هذه السيارة حتى باب المبني الذي به لجنة الانتخابات ، وتلصق مؤخرتها بالباب وتفرغ حمولتها من العمال فيدخل كل منهم ويقدم للجنة تذكرة باسم ناخب من ناخبي اللجنة ، ورئيس اللجنة وأعضاؤها يعلمون أن أحدًا من هؤلاء العمال لا يحمل بطاقة انتخابية باسمه بل ليس منهم من يعرف الاسم المكتوب في البطاقة التي يقدمها ،وكل ما لقنه هؤلاء العمال هو أن ينتخبوا الاسم الذي حفظوه وهو اسم المرشح المنافس للأستاذ المرشد .

المنظر الخامس : بعد أن تفرغ السيارة حمولتها تظل في وضعها حتى تؤدي الحمولة المهمة المكلفة بها ثم ترجع الحمولة إلي مكانها في السيارات حتى إذا امتلأ رتل السيارات التي جاءت معًا ينطلق الرتل دفعة واحدة خارج مقر الدائرة وفي سرعة جنونية بين صفوف جنود البوليس حتى تختفي عن الأنظار داخل المعسكرات البريطانية ؛ وبعد قليل يأتي رتل آخر ويمثل الدور نفسه .

المنظر السادس : يدخل الأستاذ المرشد مقر إحدى اللجان ويضبط بنفسه أمام أعضاء اللجنة مائة تذكرة انتخابية مزورة يحملها غير أصحابها من هؤلاء العمال ، ويقدمها لوكيل النيابة فلا يتخذ وكيل النيابة أي إجراء سوي أنه يتسلم التذاكر قائلا إنه سيجري تحقيقًا دون أن يفعل شيئًا .

المنظر السابع : أمام هذه المهازل وهذا الإجرام لم نتمالك نحن – الإخوان الزائرين – أعصابنا فوجدنا أنفسنا نهاجم سيارات الجيش البريطاني المحملة بالعمال ونحاول منعها من دخول اللجان ، فإذا بقوات البوليس تهاجمنا بقيادة فبتز باتريك الحكمدار ، وقد رأيت هذا الحكمدار الانجليزي يأمر الجنود بحملنا في سيارات نقل جاءوا بها وحملت أنا شخصيًا مع مجموعة من الإخوان إلي إحدى هذه السيارات وسط مناقشات حادة بيننا وبين هذا الحكمدار . وبعد أن دخل رتل السيارات القادم من المعسكرات البريطانية والذي كنا نهاجمه إلي مقار اللجان أمر هذا الحكمدار بإطلاق سراحنا .

المنظر الثامن : عند انتصاف النهار ، قرر الإخوان أن يقوموا بعمل عنيف قد يؤدي إلي وقوع ضحايا من الجانبين ، ويبلغ ذلك مسامع الأستاذ المرشد فيحضر حيث يجتمع الإخوان وينهي إليهم رأيه بعدم موافقته علي هذا الإجراء ويقول : إن دماء الإخوان أعز عليه من أن تسفك في سبيل معركة مهما بلغنا في أهميتها فإنها لا تعدو أن تكون معركة جانبية .

ولكن أهمية هذه المعركة الجانبية أنها كشفت لنا بوضوح حقيقة الاستعمار الذي يجثم علي صدر بلادنا وحقيقة ساستنا الذين يتظاهرون أمام الشعب بالوطنية وهم في السر قد تعاقدوا مع الانجليز علي أن يكونوا مطايا لهم وتعالا في أقدامهم يدهسون بها رقاب الشعب المسكين . وينقضي هذا اليوم الأخير ... وتعلن نتيجة الانتخابات بسقوط المرشد العام في الدائرة التي يعلم كل مصري وكل عربي بل ويعلم العالم كله أن هذه الدائرة هي عقر داره ، وأن رجالها ونساءها وأطفالها لا يهتفون إلا باسمه ويؤثرونه علي آبائهم وأمهاتهم .

موقف مسرحي للانجليز :

بدت إقالة الملك لوزارة الوفد يوم إقالتها وكأنها انتصار الملك ... لا لأنه أقال وزارة وفدية – فقد أقال من قبل وزارات وفدية – وإنما لأن وزارة الوفد التي أقالها هذه المرة كانت مؤيدة تأييدًا سافرًا من الانجليز ، ولازال اقتحام الدبابات البريطانية سور قصر عابدين لإرغام الملك علي استدعاء النحاس للحكم ماثلا في الأذهان ... فكأن الملك وقد تمكن من إقالة هذه الوزارة قد انتصر علي الانجليز وتغلبت إرادته علي إرادتهم ... ويبدو أن الانجليز كانوا راغبين في إيهام الشعب بهذا المعني فتظاهروا بأنهم غلبوا علي أمرهم ... وتركوا وسائل إعلامنا تبرز هذا المعني أيضًا حتى استقر ذلك في نفوس الشعب . وقد استطاع الانجليز – بهذا الموقف المسرحي – تحقيق الأهداف التالية :

الهدف الأول : أنهم حطموا الوفد باعتباره الهيئة الشعبية المسيطرة ، فقد دخل الوفد الحكم وله في نفوس الشعب الحب والإعزاز . وغادره فاقدًا هذا الحب والإعزاز وحل محلهما البغض والمرارة حيث عانوا في ظل حكمه شظف العيش وقسوة الحياة نتيجة ندوة مواد المعيشة ، واستيلاء الجيش البريطاني علي أطيابها ثم تسلط أتباع الوفد من كبار الموظفين والتجار علي البقية الباقية من هذه المواد بالسلب والنهب والاستغلال .. وهو الهدف الذي أشرنا إليه من قبل عند مناقشتنا لحادث 4 فبراير سنة 1942 ... ولا يخفي أن الطريقة السافرة التي اختارها الانجليز في 4 فبراير لتمكين الوفد من الحكم هي في حد ذاتها قد زلزلت ثقة الكثيرين في الوفد – لكن ما ارتكبه الوفد من أخطاء في أثناء حكمه قد أتت علي البقية الباقية له في النفوس ... وربما كان إحساس الوفد بنجاح سياسة الانجليز في إفقاده ثقة الشعب هو الذي دفعه بعد ذلك إلي تغيير سياسته التقليدية في معاداة الملك وإبدالها بسياسة التزلف إليه والتملق له .

والهدف الثاني : أنهم رغبوا في إنساء الشعب مرارة ما استقر في نفوسهم من آثار الاعتداء والصلف وامتهان الكرامة فيما اتخذوه من إجراء يوم 4 فبراير سنة 1942 .. وقد رأوا أن ظهورهم بمظهر المستكين المغلوب علي أمره أمام السلطة الشرعية الممثلة في الملك مسحًا لهذه الوزارة أو تخفيفًا منها علي الأقل . ويبدو أن هدف الانجليز في هذا الصدد قد تحقق إلي حد كبير ، فقد كنت تسمع من الكثيرين في مختلف الأوساط يوم إقالة وزارة الوفد كلامًا فيه معني الشماتة في الانجليز .

والهدف الثالث : أنهم أرادوا أن يهيئوا جوًا يجعل الشعب علي شوق لاستقبال الوزارة القادمة استقبال الأبطال المتقدمين ، الذين جاءوا رغم أنف الانجليز ليمسحوا عار يوم 4 فبراير سنة 1942 وليردوا للشعب كرامته وشخصيته .

وهذا ما تحقق فعلا كذلك ؛ فقد بدأ للناس كأنما استرد الملك كرامة الشعب في شخصه ، كما بدالهم كأنما جاء الملك متحديًا سلطة الانجليز بالرجال الذين هم أعداء الانجليز ، بدليل أن الانجليز يوم 4 فبراير سنة 1942 قرروا إبعادهم عن الحكم ... إذن فمرحبًا بهم رغم أنف الانجليز ... وتظاهر هؤلاء الرجال بأنهم جاءوا إلي الحكم لإنقاذ الحرية رغم أنف الانجليز .


انكشاف المؤامرة بين الانجليز والسعديين :

خدع الشعب تمامًا أمام مكر الانجليز ونفاق السعديين ... والشعب معذور في أن يخدع فقد أحكم الانجليز خططهم ، واستطاع الملك وأنصاره السعديين أن يتقنوا تمثيل الدور الذي رشحهم الانجليز لأدائه ، ولم يكن الشعب يعلم شيئًا عما كان يدور خلف الكواليس قبل أن تفتح أمامه الستارة ليري علي المسرح هؤلاء الرجال وعلي رأسهم الملك وقد ظهروا وبأيديهم سيوف تقطر دمًا مدعين أنه دم الانجليز المعتدين . ولم يفطن الشعب إلي أن ما رآه علي المسرح لم يكن إلا خدعة كما هو ضحيتها ، ولم يبدأ يسترد وعيه شيئًا فشيئًا ، ويفهم ما كان يدور خلف الكواليس إلا بعد أن صدمته فاجعتان .

أولاهما : انتخابات الإسماعيلية وما أثبتته من أن تسلط الانجليز وتبجحهم يوم 4 فبراير سنة 1942 لم يكن أوقح ما عندهم إذ أنهم كانوا في انتخابات الإسماعيلية أكثر تسلطًا وأشد وقاحة وتبجحًا . ففي يوم 4 فبراير سنة 1942 لم يجدوا معاضدة في عدوانهم من السلطة الحكومية ممثلة في بوليسها ورجال إدارتها ، أما في الإسماعيلية فقد وجد العدوان الانجليزي من بوليس الحكومة المصرية ورجال إدارتها ورئيس حكومتها عونًا بل خدمًا يحمون عدوانه ، ويتهافتون علي نيل الخطوة لديه ... في 4 فبراير كان عدوان الحكومة البريطانية موجها إلي الملك وإلي حفنة وراءه من صنائعه البشوات سدته شهواته وخدام نزواته ، ومطلب الانجليز كان استدعاء الحزب الشعبي للحكم أي أنه كان مطلبًا في ظاهره علي الأقل في جانب الشعب ... أما في الإسماعيلية فقد كان عدوان الانجليز مؤيدًا بالملك وصنائعه السعديين ، موجها توجيهًا مباشرًا ضد الشعب نفسه ... مما لم يدع للشعب مندوحة للتعليل أو للتأويل أو لحسن الظن في أن هذه المظاهرة التي قام الملك بتدبيرها مع أذنابه للسعديين لم تكن إلا خدعة للشعب ، واستخفافًا بعقليته ، واستهتارًا بفهمه ووعيه ... ولم يدع عند الشعب أدني شك في أن هذه الوزارة السعدية وعلي رأسها الملك ليست إلا طليعة حقيرة للانجليز .

ومن سوء حظ الانجليز وأذنابهم أنهم ظنوا أن معركة انتخابات الإسماعيلية لن تكون أكثر من معركة في دائرة من ثلاثمائة دائرة أو نحوها لن يشعر بما يدور فيها إلا أهل المنطقة .. ولم يدر بخلدهم أن جميع دوائر القطر ستكون ممثلة يوم الانتخابات في هذه الدائرة ، وأن هؤلاء الممثلين سيرجعون في اليوم التالي إلي بلادهم ويروون لأهل هذه البلاد ما شاهدوه بأعينهم من مآس واعتداء وإجرام . وهكذا استيقظ الشعب المصري في اليوم التالي علي فهم جديد ، ووعي جديد ، ونظرة جديدة إلي الناس وإلي الأمور وإلي الحكومة التي جاءت إلي الحكم باسم حكومة التحرير والإنقاذ ، تحرير الشعب من ديكتاتورية الوفد ، وإنقاذ شرف البلاد وصمة 4 فبراير سنة 1942 .

أما ثانية الفاجعتين التي استيقظ الشعب علي دويها فهي حيرته لم سحب الانجليز تأييدهم لحكومة الوفد التي ضحوا في 4 فبراير سنة 1942 بجانب كبير من سمعتهم في سبيل إسناد الحكم إليها ، ثم نقلوا تأييدهم إلي الجانب الآخر الذي داسوه بأقدامهم في ذلك اليوم ؟ ...

ظلت الحيرة مستبدة بأفكار الشعب ، لا يجدون لها تعليلا ، حتى استقرت الأمور لهذه الحكومة ، وحظيت بمجلس نواب صنعته بيديها بالمواصفات التي حددها الانجليز ، حينئذ انطلقت القنبلة التي أفاق علي دويها الشعب من حيرته ، حيث استبان له ما كان ملتبسًا عليه ، وظهر له ما كان مستورًا عنه وتكشف السر الذي كان في طي الكتمان بين السعديين وبين الانجليز وكان ذلك حين أعلنت الوزارة السعدية برياسة أحمد ماهر الحرب علي المحور (ألمانيا وإيطاليا) . وقد سبقت الإشارة من قبل إلي أن الانجليز منذ أعلنوا الحرب علي ألمانيا سنة 1939 وهم يلحون علي الحكومات المصرية المتعاقبة أن تعلن الحرب علي ألمانيا تنفيذ البنود معاهدة سنة 1936 فقد ألحوا في ذلك علي وزارات علي ماهر وحسن صبري وحسين سري ولكن ما كانت هذه الحكومات تري أن لا مصلحة مطلقا في إعلان الحرب علي دول لم تمسنا بأي نوع من أنواع الاعتداء ، فإنهم جميعًا أصروا علي رفض هذا الطلب حتى صار رفضه سياسة عامة للدولة يقف وراءها الشعب كله بجميع أحزابه وطوائفه .

حتى وزارة الوفد التي جاء بها الانجليز في 4 فبراير سنة 1942 عجز الانجليز عن إخراجها في اتخاذ هذا القرار .. ويبدو أن هذا كان هو السر الحقيقي وراء تخلي الانجليز عن تأييدها آخر الأمر لاسيما بعد أن عقدوا في الخفاء الصفقة مع السعديين . وجاء أحمد ماهر مطمئنًا إلي تأييد الانجليز ، متحديًا إرادة الشعب التي أجمع عليها بكل طوائفه متجاهلا شعوره وعواطفه ، وأعلن الحرب علي المحور ، ظنًا منه أن تأييد الانجليز يحميه من غضب الشعب ، ولكن غضب الشعب كان أقوي مما يظن ؛ إذ قام شاب فدائي من غمار هذا الشعب الغاضب اسمه محمود العيسوي يعمل محاميًا فأفرغ فيه طلقات أردته قتيلاً ، ولما سئل محمود العيسوي في التحقيق عن الدافع الذي دفعه إلي قتل أحمد ماهر قال بصريح العبارة : إعلانه الحرب علي المحور وما قد يجره ذلك علي البلاد من دمار في حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق