هذه المدونة

بعد أن هالني حجم الكذب وتعمد قلب الحقائق التي قام بها من هم وراء مسلسل الجماعة، وتوظيف المسلسل لتشويه التاريخ، ومحاولة التأثير على المشاهدين لتكوين صورة مشوهة عن الجماعة ومؤسسها بل عن الإسلام ذاته، حاولت أن أقدم فى هذه المدونة نقلا من مذكرات الإمام حسن البنا وبعض الكتب الأخرى، حقيقة الأحداث التى قدمت بهذا التشويه الفج، وهذا الكذب الذي لا علاقة له بالإبداع على الإطلاق

الثلاثاء، 31 أغسطس 2010

ترشيح المرشد العام لمجلس النواب من كتاب أحداث صنعت التاريخ

ترشيح المرشد العام لمجلس النواب سنة 1942 :

ومن المسلم به أن أية دعوة ذات أهداف نبيلة وبرامج إصلاحية تريد تحقيق هذه الأهداف والبرامج ينبغي أن يكون من وسائلها إلي ذلك العمل علي الوصول بأعضائها إلي مقاعد المجالس التشريعية ، ولا يتأتي ذلك إلا بخوض المعارك الانتخابية ... ومن بدائه الأمور أنه كلما كان عدد النواب لهيئة من الهيئات أكثر كان تحقيق آمالها أيسر ؛ ولكن الإخوان كانوا يعتقدون أن حصولهم علي مقعد واحد في مجلس النواب كفيل بأن يؤثر في هذا المجلس أبلغ التأثير إذا كان صاحب هذا المقعد هو حسن البنا ؛ ذلك أن لديه من قوة الشخصية والقدرة علي الإقناع مع ما يتمتع به من روحانية فياضة وبلاغة آسرة ما يشد إليه الأسماع والعيون والعقول والقلوب ، وما يفعل في السامعين فعل السحر ... وقد استطاع بهذه المواهب النادرة أن يجمع حوله من الأنصار الذين يفتدون دعوته بأموالهم ودمائهم مئات الألوف في أنحاء مصر وغير مصر من الدول العربية والإسلامية .

لهذا اتخذ الإخوان قرارًا بترشيح المرشد العام عن دائرة الإسماعيلية في الانتخابات التي أعلنت حكومة الوفد إجراءها سنة 1942 ... وإذا كان أعظم المرشحين لم يكن لتقدمه للترشيح من صدي إلا في دائرته التي ينتمي إليها ، فإن تقدم حسن البنا للترشيح كان له صدي يتردد في جميع محافظات القطر ومراكزه وحواضره وقراه بل وقد تعدي ذلك الصدى إلي خارج مصر ؛ ذلك أن في كل مكان من هذه الأماكن رجالا ونساء يعقدون الآمال للعريضة علي هذا الترشيح . وينبغي أن يكون مفهومًا أن ترشيح حسن البنا في دائرة الإسماعيلية ليس له إلا معني واحد هو أنه من قبل أن تجري انتخابات قد صار عضوا بمجلس النواب مهما نافسه في الترشيح مائة مرشح منهم رئيس الحكومة نفسها ، ذلك أن أهالي هذه الدائرة وعن بكرة أبيهم رجالا ونساء وأطفالا يعتبرون ترشيح حسن البنا عندهم شرفًا لا يعادله شرف ، وأن انتخابهم إياه فريضة من فرائض الدين وقربة من أعظم القربات إلي الله عز وجل . وهذه الحقيقة التي يعرفها أهل الإسماعيلية ويعرفها الإخوان في كل مكان ؛ ويعرفها الانجليز أيضًا ،وإن كان يجهلها – حتى ذلك الوقت – فئات أخري منهم حكام مصر ورجال الأحزاب المصرية الذين لم يستطيعوا أن يفهموا عن الإخوان المسلمين أكثر من أنهم جماعة تدعو إلي الدين الذي لا يخرج في تصورهم عن كونه طقوسًا وعبادات ومحاربة للمنكرات بالوعظ والإرشاد ... بالرغم مما يبذله الإخوان من جهود لتوضيح فكرتهم عن الإسلام باعتباره دينًا ودولة ، وعقيدة وشريعة ، وبرنامجًا إصلاحيًا شاملا لجميع شئون الحياة .

تقدم الأستاذ المرشد يطلب الترشيح إلي وزارة الداخلية كالمعتاد ... فما الذي حدث ؟... بعد أيام قلائل جاء ه رسول من قبل مصطفي النحاس باشا رئيس الحكومة يدعوه لمقابلته .... وسأنقل هنا نص ما جاء في تقرير الأمن العام عن هذه المقابلة وعن هذا الموضوع عامة وقد نشره في جريدة الأهرام في 14-2-75 الدكتور عبد العظيم رمضان مدرس التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة طنطا ضمن وثائق نشرها ، قال التقرير :

" لم يكد يذاع خبر ترشيح الأستاذ حسن البنا ويدفع التأمين إلا واتصل به حضرة عبد الواحد الوكيل بك صهر حضرة صاحب المقام الرفيع مصطفي النحاس باشا ، وتكلم معه في موقف الإخوان المسلمين ، وطلب منه الرجوع إلي رفعة النحاس باشا ، وتكلم معه في موقف الإخوان المسلمين ، وطلب منه الرجوع إلي رفعة النحاس باشا لكي يكون رفعته علي بينة من أمرهم لأن رفعته لديه فكرة غامضة عنهم . وبعد بضعة أيام تلقي دعوة بمقابلة رفعة النحاس باشا ، وتمت المقابلة بفندق مينا هاوس ، وقد طلب منه رفعة النحاس باشا أن يتناول عن الترشيح . وصارحه رفعته أنه يطلب ذلك إيثارًا للمصلحة العامة ولمصلحته (أي مصلحة الأستاذ البنا) إن كان يريد الإبقاء علي جماعات الإخوان المسلمين في مختلف البلدان ، فرفض ذلك وقال إنه يستعمل حقاً من حقوقه الدستورية ولا يري ما يمنعه من الترشيح ، وإن كان هناك موانع فإنه يطلب بيانها لكي يتبين مبلغها من الصحة ، وفضلا عن ذلك فإن قرار الترشيح صدر من هيئة المكتب العام لجماعة الإخوان ، وأنه شخصيًا لا يملك الرجوع في ذلك .

فرجاه رفعة النحاس باشا أن يعمل علي إقناع الأعضاء بالعدول عن ذلك ، وأن رفعته رأي أن يدعوه لينصح له بالتنازل وإلا اضطر إلي اتخاذ إجراءات أخري يراها رفعته قاسية ، ولا يرتاح إليها ضميره ، ولكنه حرصا منه علي مصلحة البلد مضطر إلي تنفيذها . ولما استوضحه تلك الإجراءات قال رفعته إنها حل جماعات الإخوان المسلمين وتلقي زعمائها خارج القطر ؛ وتلك هي رغبة هؤلاء الناس (يقصد الانجليز) الذين بيدهم الأمر يصرفونه كما يرون ، ونحن مضطرون إلي مجاملتهم خصوصًا في هذه المسائل الفرعية ، وفي هذه الظروف العصيبة ، لأنهم يقدرون علي كل شيء ، وفي استطاعتهم إن شاءوا أن يدمروا البلد في ساعتين .

وقد ترك رفعته فرصة للتفكير في الأمر ، وأن تتم مقابلة أخري في هذا الشأن ، وقد عرض الأمر علي هيئة مكتب الإرشاد فلم توافق الأغلبية علي التنازل ، ولكنه هو شخصيًا وافق عليه لا خوفاً من النفي ولكن حرصًا علي قيام الجماعة واستمرارها في تنفيذ أغراضها . وأخيرًا أستقر الرأي علي التنازل ، وتوجه مرة أخري لمقابلة رفعة الرئيس بوساطة سليم بك زكي الذي بسط لرفعته دعوة الإخوان ومدي انتشارها في المدن والأقاليم ، فانتهز هذه الفرصة وطلب من رفعته ضمانات بقيام الجمعية وفروعها . وعدم الوقوف في سبيلها وعدم مراقبتها والتضييق علي أعضائها للحد من نشاطهم فوعده رفعته بما طلب " .

وقد أوردت ما جاء بتقرير الأمن العام عن هذه المقابلات لأنه هو فعلا نص ما حدثنا به الأستاذ المرشد عقب رجوعه من كل من المقابلتين ، فقد كنا في ذلك الوقت في المركز العام ننتظر رجوعه علي أحر من الجمر لأن موضوع الترشيح كان أمرًا جوهريًا بالنسبة لنا ولجميع الإخوان في أنحاء البلاد ، ولهذا فإنه رأي بعد أن قص علينا ما حدث أن ننتقل إلي الإسكندرية وطنطا وغيرها من العواصم ليقصه عليهم حتى يكون الجميع علي صورة واضحة من الموضوع . وموقف الأستاذ المرشد في هذا الموضوع كان أحد المواقف القليلة التي جاء رأيه النهائي فيها صدمة لمشاعر الإخوان وعواطفهم ، فما من أحد من أنحاء البلاد إلا وشعر بهذه الصدمة التي تمثلت لنا في صورة فرصة أفلتت منا بإرادتنا ولو أننا تمسكنا بها لأفادت الدعوة منها أعظم فائدة . ولم يسلم الإخوان للأستاذ المرشد بما طلبه إليهم ، ولم ينزلوا علي رأيه إلا للثقة التي لا حدود لها فيه ، وللاطمئنان الكامل إلي إخلاصه ومقدرته وبعد نظره وحسن تدبيره للأمور .

وتقريرًا للواقع أقول إن هذا الموقف الذي وقفه الأستاذ في هذا الموضوع – وإن كان قد جرعنا في أوله بعض المرارة – إلا أنه عاد علي الدعوة بما لا حصر له من الفوائد ، وحسب القارئ أن يعلم من قوة الإخوان المسلمين في ظل هذا الموقف وفي خلال أربع سنوات بعده قد تضاعفت أضعافًا كثيرة كما وكيفاً حتى صارت أقوى هيئة شعبية في مصر وفي البلاد العربية علي الإطلاق . ومع أن حزب الوفد الحاكم في ذلك الوقت كان حريصًا علي أن يخرج من تجربته هذه مع الإخوان بكسب معنوي لحسابه ، فإن الإخوان قد خرجوا منها بمكاسب لدعوتهم لا يقاس بأدناها كسب الوفد – إن كان قد كسب شيئًا – فضلا عما أشرنا إليه آنفاً من انفتاح كل الطرق أمام الإخوان لبث دعوتهم في كل مكان دون عوائق ؛ فإن هناك مزايا أخري ما كانت لتنجز وتتخذ سبيلها إلي واقع الحياة في مصر لولا هذين اللقاءين الذين تما بين الأستاذ المرشد والنحاس باشا وعلي رأس هذه المزايا .

1 – إحياء الأعياد الإسلامية لاسيما مولد النبي صلي الله عليه وسلم وجعله عيدًا رسميًا للدولة وقد أصدر رئيس الحكومة حديثًا رسميًا مستفيضًا تحية لهذه الذكري الكريمة .

2 – إلغاء البغاء في أنحاء البلاد وكان وصمة عار في جبينها .

3 – قانون بوجوب استعمال اللغة العربية في تعامل جميع الشركات والمؤسسات ومراسلاتها .

4 – تحريم الخمر – وإن كان التحريم قد اقتصر علي المناسبات الدينية .

5 – بذل جهد مشكور في وضع أساس إنشاء الجامعة العربية .

وقد كان الأستاذ المرشد قد أخبرنا فيما أخبرنا به عما دار بينه وبين النحاس باشا في هذين اللقاءين أنه كان حريصًا أن يلقي في روع النحاس باشا أن أتناوله عن الترشيح لابد أن يقابله ما يسد هذه الفجوة بعمل إسلامي تقوم به الحكومة يثلج صدر الشعب الذي كان يؤمل الكثير من العمل الإسلامي من وراء دخولي مجلس النواب ، وقال له إن العمل الإسلامي الذي تقوم به الحكومة يقربها إلي نفوس الشعب ويرفع اسم زعامة الوفد .. وقد تعهد النحاس باشا بالنهوض بهذه المطالب . وقد وفي الرجل بتعهده ، وقد ألقي عقب هذين اللقاءين حديثاً ضمنه هذه المعاني التي اتفق عليها . وعقب صدور هذا الحديث عن النحاس باشا تقابل عبد الواحد الوكيل باشا مرة أخري مع الأستاذ المرشد واقترح عليه أن يصدر بيانًا يسجل فيه أن التنازل قد تم احترامًا لقرار الوفد بترشيح شخص آخر ويعلن فيه تأييده لسياسة الوفد في التعاون مع بريطانيا لتنفيذ معاهدة التحالف – فرفض الأستاذ المرشد ذلك واكتفي بذكر فقرات في خطاب النحاس باشا معلنًا أن الإخوان عون له في سياسة الإصلاح الديني والاجتماعي .. ونثبت هنا نص الخطاب الذي وجهه الأستاذ المرشد إلي النحاس باشا كما نشر بجريدة المصري يوم 23 مارس سنة 1942 تحت عنوان : الإخوان المسلمون يستجيبون لنداء الزعيم – ويعلنون أنهم عون للحكومة في تحقيق برنامجها الإصلاحي .

كتاب قيم من المرشد العام للرئيس الجليل :

بسم الله الرحمن الرحيم

حضرة صاحب المقام الرفيع مصطفي النحاس باشا رئيس الحكومة المصرية .

أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ، وأصلي وأسلم علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وأحييكم فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . وبعد ....

فقد تحدثتم رفعتكم إلي الأمة المصرية حديثاً رائعًا جميلا ، ضمنتموه كثيرًا من المبادئ القويمة والأماني الطيبة التي يسر كل مصري وأن يحققها الله علي أيديكم ... فقد أشدتم بالصراحة والتعاون والإخلاص ، ودعوتم الأمة إلي مصارحتكم والتقدم إليكم بالنصح ووددتم أن تمتلئ صدورنا جميعًا بهذه المعاني السامية (فنحن أبناء أسرة واحدة وهي الأسرة المصرية الكريمة) .

وقررتم رفعتكم أنه من دواعي سروركم أن تتعاون الأمة والحكومة في هذه الظروف الدقيقة في تنفيذ سياسة خارجية حكيمة ،وتصميم سياسة داخلية بصيرة ... فالواجب يقتضينا والمصلحة تدعونا إلي أن ننفذ بإخلاص وحسن نية أحكام المعاهدة التي وقعناها بمحض اختيارنا وملء حريتنا وقصدنا من ورائها سلامة استقلالنا القومي والاحتياط لمثل هذه الظروف العصيبة .. كما أن الحكومة ساهرة علي أتباع سياسة عمرانية عاجلة لخير الطبقات الفقيرة قبل غيرها .. ومن واجب الحكومة والبرلمان أن يضعا في رأس برنامجهما درس المسائل الاجتماعية والسعي إلي حلها حلا سريعا حاسمًا . وقد أشرتم إلي التطور الجديد في حياة العالم كله تطورًا " هو مقدمة لتطور أعمق غورًَا وأبعد أثرًا يجعل مظهر العالم في غير مظهرة اليوم ؛ " .

ثم ختم هذا الحديث " بأن علينا أن نعبر الطريق المحفوف بالمخاطر ، المحوط بالمكاره ، متعاونين متحدين مع الشعوب الشرقية وإخواننا أبناء العروبة الكريمة كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا ، مترقبين بزوغ فجر الحرية والإخاء بين الشعوب ؛ فيقوم عدل الحكام علي أنقاض الظلم والاستبداد ، وتتفيأ أمم ظلال الطمأنينة والسكينة والسلام "

أصغينا إلي هذا الحديث القيم ثم طالعتنا الصحف بنصائحكم الجليلة إلي حضرات المديرين والمحافظين ، ودعوتكم إياهم إلي " أن يكونوا نواة سلام ودعاة صلح وتفاهم بين العائلات ، وأن يديموا التجوال في البلاد ليتبينوا مطالب الأهلين ، وينظروا فيها بالغين المجردة عن كل ميل وهوي ،وأن يستمعوا إلي شكاوى المظلومين ويعملوا علي رفع المظالم عنهم " . وقرأنا في الصحف أن معالي وزير الصحة أخذ يدرس باهتمام مشكلة البغاء تمهيدًا لتخليص مصر من وصمته الشائنة ،وأنه قرر فعلا البدء بإلغاء دور البغاء في القرى والبنادر من أول مايو المقبل . والإخوان المسلمون أمام هذه الآمال الصالحة ، والأعمال الطيبة النافعة ، يرون من واجبهم أن يستجيبوا لندائكم وأن يعلنوا أنهم حريصون كل الحرص علي أن يكونوا عونًا لكم وللحكومة المصرية في تحقيق برنامجكم الإصلاحي الذي أعلنتموه ، مستمسكين دائمًا بآداب الإسلام العالية وتعاليمه القويمة وأخلاقه الفاضلة .

والله نسأل أن يهيئنا جميعًا لخير هذا الوطن العزيز والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

وبعد عام من هذا التاريخ ، ومع التكوين الجديد للوزارة بعد خروج مكرم عبيد باشا منها لخلافة النحاس باشا رغب أعضاء الوزارة في زيارة المركز العام للإخوان ، فوجه الإخوان إليهم الدعوة ، وننقل وصف هذه الزيارة وما تم فيها كما نشرته جريدة المصري يوم 17 مايو سنة 1943 بعنوان ... الإخوان يضيفون وزراء الشعب .

" أقام المركز العام لجماعة الإخوان المسلمين حفلة كبرى بداره بالحلمية الجديدة في الساعة السابعة من مساء أمس دعا إليها أصحاب المعالي الوزراء فلبي الدعوة فؤاد سراج الدين وزير الزراعة . و . . . . و . . . . و . . . . . . وكان في استقبالهم فضيلة المرشد العام الأستاذ حسن البنا والأستاذ أحمد السكري وكيل الجماعة وبقية الإخوان وفرقة الجوالة الخاصة بهم ، وكان الإخوان يستقبلون كل وزير عند حضوره بالهتاف والتكبير " الله أكبر ولله الحمد " .

وعلي آثر وصول الوزراء حان وقت صلاة المغرب فأذن المؤذن وأم المصلين فضيلة المرشد العام ولما كانت المصلي لا تتسع لجميع الذين حضروا فقد أدي العديدون الصلاة في الحجرات وفي حديقة الدار وخارجها وقد فرشت بالبسط والحصير – وتصادف أن حضر في هذه الأثناء وزير التموين الأستاذ أحمد حمزة فأدي الصلاة مع المصلين خارج الدار ، فكان منظرًا إسلاميًا ديمقراطيًا رائعًا رؤية أصحاب المعالي الوزراء وهم بين الإخوان يؤدون صلاة المغرب في خشوع المؤمنين الصالحين ...

وبعد الصلاة جلس أصحاب المعالي الوزراء مع الإخوان فوق سطح الدار حول موائد الشاي والحلوى والمرطبات .. وافتتحت الحفلة بتلاوة آي الذكر الحكيم ثم ألقي الأستاذ أحمد السكري كلمة ترحيب وتلاه الأستاذ حسن البنا بكلمة أوضح فيها فكر دعوتهم وأهدافهم . وألقي بعد ذلك كل من أصحاب المعالي الوزراء الزراعة والتموين والشئون والتجارة كلمات مناسبة أشاروا فيها إلي مشروعات حكومة الوفد وعلي رأسها النحاس باشا وهي المشروعات التي تحقق الأغراض الإسلامية مثل إلغاء البغاء . وإحياء الأعياد الإسلامية وتحريم الخمر والموبقات وقانون استعمال اللغة العربية وغير ذلك من مفاخر حكومة الوفد . ثم وقف الأستاذ أحمد السكري فشكر الوزراء علي ما أبدوه في كلماتهم من استعداد طيب نحو تشجيع جماعة الإخوان المسلمين ورجالهم أن يبلغوا رفعة الرئيس تحيات الإخوان وأطيب تمنياتهم وأن يقدموا له باقة من كتاب الله وهي الآية الكريمة " ولينصرن الله من ينصره إن اله لقوي عزيز . الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر . ولله عاقبة الأمور .

وانتهي الاحتفال في الساعة العاشرة مساء " .

وقبل أن نصل في معالجة هذا الموضوع إلي نهايته ، لا يفوتنا أن نومئ إلي غمزات وردت في تعليق الكاتب الذي أشرنا إليه آنفًا فيما نشره بجريدة الأهرام في 14-2-1975 حيث شكك سيادته في صدور العبارات التي وضعنا تحتها خطوطًا مما نقلناه من تقرير الأمن العام عن النحاس باشا ، وملخصها أن الانجليز هم الذين طلبوا من النحاس باشا إرغام حسن البنا علي التنازل . وحسبنا في الرد علي هذا المؤرخ الذي يستقي معلوماته من وثائق إدارة الأمن العام ، أن يطلب من هذه الإدارة وثيقة عما تم في ترشيح الأستاذ حسن البنا نفسه في نفس الدائرة في سنة 1944 في أيام وزارة أحمد ماهر ، فإذا لم يعثروا علي هذه الوثيقة ، فليذهب إلي الإسماعيلية ويسأل عشرات الآلاف من أهلها الذين حضروا هذه الانتخابات ولا يزالون علي قيد الحياة ليسمع منهم كيف تدخل الانجليز بأنفسهم وبجيش احتلالهم المرابط في الإسماعيلية لإسقاط حسن البنا مما سنفصله في الصفحات القادمة إن شاء الله .

وسيادة المؤرخ كان مدرسًا بجامعة طنطا حين أرخ لهذا الموضوع سنة 1975 ، وهذا المنصب يكون صاحبه عادة في سن تناهز الأربعين ، ومعني ذلك أنه في أثناء هذه الفترة التي يؤرخ لها كان في مهد الطفولة . ولكنه حين يؤرخ لهذه الفترة يؤرخ لفترة شهدها جيل لازال يعيش معه فكان عليه وهو مدرس للتاريخ المعاصر ويؤرخ لتاريخ معاصر أن يرجع إلي من عاصروا هذه الأحداث في مواقعها ، وهم لا يزالون علي قيد الحياة بدلا من أن يقتصر في تاريخه علي الوثائق التي لا يكتفي بها عادة إلا في تاريخ لأحداث طال عليها الأمد ولم يعد علي قيد الحياة من يرجع إليه فيها . علي أننا سوف نتناول تعليق هذا المؤرخ بمناقشة موضوعية في الفصل القادم إن شاء الله .

الإمام البنا يكتب للفلسطينيين عن صناعة الموت

الإمام البنا يكتب للفلسطينيين عن صناعة الموت


مجلة النذير، العدد (18)، السنة الأولى، 2 شعبان 1357ﻫ= 26 سبتمبر 1938م، ص(3- 5).

أجل.. صناعة الموت؛ فالموت صناعةٌ من الصناعات؛ من الناس من يحسنها فيعرف كيف يموت الموتة الكريمة، وكيف يختار لموتته الميدان الشريف والوقت المناسب، فيبيع القطرة من دمه بأغلى أثمانها، ويربح بها ربحًا أعظم من كل ما يتصوَّر الناس، فيربح سعادة الحياة وثواب الآخرة، ولم تنتقص عن عمره ذرة، ولم يفقد من حياته يومًا واحدًا، ولم يستعجل بذلك أجلاً قد حدَّده الله.

ومن الناس جبناء أذلة؛ جهلوا سرَّ هذه الصناعة، وغفلوا عن مزاياها وفضائلها، فمات كل واحد منهم في اليوم ألف موتة ذليلة، وبقي وموتاته هذه حتى وافته الموتة الكبرى ذليلةً كذلك، لا كرمَ معها ولا نبلَ فيها، في ميدان خامل خسيس ضارع، وقضى ولا ثمن له، وأهدر دمه ولا كرامة.

إن القرآن الكريم علَّم المسلمين سرَّ هذه الصناعة، وأرشدهم إلى فضائلها وأرباحها ومزاياها، وندبهم إليها في سور كثيرة، مثل قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ (13)﴾ (الصف)، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ﴾ (التوبة: من الآية 111).. إلى آيات كثيرة لا يحصيها عدٌّ ولا يتناولها حصر.


وقد عرف هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلف هذه الأمة، وعرفوا أنهم لن يتجاوزوا قدرًا قد أمضى وسلف، ولن يُحرموا أجرًا قد عظم وكُتب، ولن يستبقوا أجلاً قد قُدِّر وحُدِّد، فأحسنوا هذه الصناعة أيَّما إحسان، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لولا أن أشقَّ على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولوددت أن أقتل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل" ، وهذا صحابي جليل يُستشهد فيسأله الله عما يتمنَّاه، فيتمنَّى أن يعود إلى الدنيا ليُقتل مرةً ثانيةً في سبيل الله ، وهذا أبو بكر يقول لخالد في وصيته العظيمة: "يا خالد.. احرص على الموت توهب لك الحياة" .

ثم جاءت من بعد ذلك خلوف من المسلمين ركنوا إلى الدنيا في العبث واللهو، وأهملوا مواد القوة، وجهلوا صناعة الموت، وأحبوا الحياة، وتنافسوا على لقبٍ كاذبٍ، وجاهٍ زائلٍ، ومالٍ ضائعٍ، ومظهرٍ زائفٍ، وتعس عبد الدينار؛ عبد الدرهم؛ عبد القطيفة، فوقعوا في الذلة، واستمكن منهم العدو، وخسروا سيادة الدنيا، وما أعظم تبعتهم في الآخرة!، وحق عليهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فقد تداعت على المسلمين الأمم، ونزع الله من قلوب أعدائهم المهابة منهم، وقذف في قلوبهم الوهن، وإنما الوهن حب الدنيا وكراهة الموت .

وكاد هذا الخلق الذليل يستبد بمشاعر المسلمين وعواطفهم، ويرين على قلوبهم وأرواحهم، ولكن رحمة الله التي يتدارك بها أهل هذا القرآن دائمًا لم تدعهم هكذا، فكانت "قضية فلسطين".

انجلى الصدأ عن المعدن النفيس، وبرزت النفس في ثوبها الحقيقي اللامع المجاهد، وتكشف الصدف عن لؤلؤه، وتمحَّص الذهب الخالص تحت نار الضغط الأثيم، وذهب فريق من أبطال المسلمين وجِدَّةٌ السلف يحسنون من جديد صناعة الموت، ويطلبون عن طريقها حقهم في الحياة، وسرى هذا التيار من نفس الفئة المجاهدة القليلة في جوار الحرم المقدس إلى كثيرٍ من شباب الإسلام والعرب، فخفقت قلوبهم، واهتزت أريحيتهم، واضطرمت بهذا الشعور القرى والشوارع والميادين والبيوت والمدارس والمساجد في عاصمة العباسيين بغداد، وعاصمة الأمويين دمشق، وفي القاهرة عاصمة مصر ومعقل صلاح الدين، والتي أذاقت الصليبية أمرَّ الهوان في حطين، وقذفت بهم بعد ذلك إلى البحر، وردَّتهم عن البيت المقدس خائبين مدحورين، ولئن شاءت السياسة الموضعية أن تكبت هذا الشعور في بعض المواطن، وأن تُضعف من مظاهره العملية، فهي بذلك إنما تزيده قوةً، وتزيد النفوس به تأثرًا وانصهارًا، حتى إذا انفجر فلن ينفع في كبته بعد ذلك جهد الجاهدين ولا حذر المُتخوِّفين.

أيها الفلسطينيون البواسل من شباب محمد وحماة بيت المقدس.. صبر جميل، ولقد ربحتم كثيرًا، ولو لم يكن من نتائج ثورتكم المباركة الحقة إلا أن كشفتم غشاوات الذلة وحجب الاستسلام عن النفوس الإسلامية، وأرشدتم شعوب الإسلام إلى ما في صناعة الموت من لذة وجمال وروعة ورِبْح لكنتم الفائزين، ولكن أبشروا؛ فليس ذلك ربحكم فقط، ولكنكم ربحتم معه إعجاب العالم وثواب الله، وستربحون النصر المؤزر في القريب إن شاء الله، ﴿وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ (محمد: من الآية 35).

وأنتم أيها المسلمون في أقطار الأرض.. اذكروا هذا الدرس جيدًا، واعلموا أنه جاءكم في أمسِّ أوقاتكم حاجةً إليه، وتلقيتموه والعالم على فوهة بركان، فإياكم أن ترجعوا بعد اليوم "غنمًا" يصرفها الذئب أنَّى شاء لتكون له في الحرب فداءً وفي السلم غذاءً، ولكن تجهَّزوا لتحرروا ولتدفعوا عن أنفسكم كل كافر خوان لا عهد له ولا ذمة ولا موثق له ولا أمان.

أيها المسلمون في أقطار الأرض..

إن فلسطين هي خط الدفاع الأول، والضربة الأولى نصف المعركة؛ فالمجاهدون فيها إنما يدافعون عن مستقبل بلادكم وأنفسكم وذراريكم كما يدفعون عن أنفسهم وبلادهم وذراريهم، وليس قضية فلسطين قضية قُطْر شرقي ولا قضية الأمة العربية وحدها، ولكن قضية الإسلام وأهل الإسلام جميعًا، ولا محلَّ للتدليل على حقوق العرب فيها، ولا محلَّ لإيضاح هذه الحقوق وبيانها، ولا محلَّ للأقوال والخطب والمقالات، ولكن الساعة ساعة العمل.. احتجوا بكل مناسبة وبكل طريق.. قاطعوا خصوم القضية الإسلامية مهما كانت جنسياتهم أو نِحَلهم.

تبرَّعوا بالأموال للأسر الفقيرة والبيوت المنكوبة والمجاهدين البواسل.. تطوعوا إن استطعتم- لا عذر لمعتذر- فليس هناك ما يمنع من العمل إلا ضعف الإيمان.

ولا يهلك على الله إلا هالك.

﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج: 40).

الاثنين، 30 أغسطس 2010

منتهى الدناءة والإنحطاط - حسبنا الله ونعم الوكيل

من الممكن أن نصف هذه الحلقة التاسعة عشرة بأنها جمعت كل أساليب التشويه التى يستخدمها السيناريست منذ بدء الحلقات..
مقال استعدوا يا جنود للشيخ أحمد البنا (ذكر نصف الحقيقة على طريقة لا تقربوا الصلاة والإيحاء بما لا تتحمله الكلمات)
كلام منسوب لحسن البنا: القوة زي الدواء المر لازم الكل يشرب منه لكي يرتدع ودي نظرية السيف فى الإسلام، السيف فى يد المسلم زي المشرط فى يد الجراح يستأصل به المرض (الكذب واختلاق المواقف والحوارات التى لم تحدث)
فى موقف قيام شباب مصر الفتاه بتحطيم الخمارات (الكذب واستخدام الإيحاءات والغمز واللمز حتى يظهر حسن البنا الانتهازى المنافق الذي يقف ضد الشريعة!!)
وطبعا موقف تحضير حسن البنا لمقابلة الملك فاروق الذي يظهر حسن البنا المنافق الوصولى الانتهازي ثم عندما لم يقابله الملك (فى الحلقة العشرون) يثور حسن البنا ثورة عارمة!! والموقف موجود فى العديد من الكتب وذكرته من قبل فى تدوينة سابقة وسأعيد ذكره فى هذه التدوينة حتى يعرف الجميع حجم الجريمة التى يقوم بها هذا الأفاق.
بالإضافة إلى الحشر المستمر الفج لكل الشبهات التى أثيرت حول الجماعة والتى ثبت أن معظمها إفتراءات لا تمت للحقيقة بصلة
أستميحكم عذرا سأتوقف عن متابعة هذا الهراء بعد أن أصبحت الصورة شديدة الوضوح وانكشفت كل أساليب الكذب والبهتان التى يستخدمها هذا السيناريست (والتى سأحاول أن أجمعها فى تدوينة أخيرة قادمة بمشيئة الله) وأنقل لكم فيما يلي حادثتي تحطيم الخمارات وحقيقة ما حدث فيها ومقابلة الملك فاروق لحسن البنا.


تحطيم الخمارات :من كتاب أحداث صنعت التاريخ على لسان الأستاذ محمود عبد الحليم

فى صباح يوم من الأيام قرأنا فى الصحف أن جماعات من مصر الفتاة هاجمت عددا من الحانات فى القاهرة وحطمت واجهاتها وبعض محتوياتها ، وقد تم القبض على عدد من الجناة ويجرى التحقيق معهم .

وفهمت فى الحال أننا المقصودون بهذا العمل ، وأيد ذلك حين انتظمنا فى الدراسة فى ذلك اليوم أن انطلق طلبة مصر الفتاة يفخرون بهذا العمل الإيجابي ، ويتيهون به على الجميع ويتوجهون بهذا التيه إلى الإخوان ، بل ويفصحون عن ذلك صراحة فى حديثهم مع الطلبة الآخرين ...

ولما كان هذا الإجراء وهذا التحدي موجها إلى الإخوان بعامة وإلى إخوان كلية الزراعة بخاصة ، فقد رأيت فى موقف يقتضيني أن لا أقف مكتوف اليدين أمام التحدي لاسيما أن طلبة الكلية أحسوا بهذا التحدي وأخذوا ينتظرون منا ردا عليه ، ورأيت أن الرد الشفوي فى هذا الصدد لا يجدي لسببين : أحدهما : أن من غير المستطاع جمع الطلبة جميعا فى مكان واحد ليستمعوا ، والآخر : لأن الرد الشفوي تصاحبه عادة حالات انفعالية تجعل من العسير على التكلم جمع أطراف الموضوع والإحاطة به من جميع نواحيه ... وكانت مجلة النذير فى هذه الأيام قد انتشرت وذاع صيتها فى أوساط طلبة الكلية فرأيت أن يكون ردى مقالا على صفحات النذير ليكون إقناعا لإخواننا وزملائنا بالكلية ولجميع الكليات ومختلف الطوائف فى القاهرة وفى أنحاء البلاد .

وكان المقال على ما أذكر بعنوان (( تحطيم الخمارات )) وملخص ما جاء بالمقال هو أن الدعوة الإسلامية باعتبارها دعوة الخلود فإنها لا تعتمد فى خطواتها على الارتجال أو الفطرة ، وإنما تعتمد على أساليب رصينة تتمشى مع العقل وتخضع للنواميس الكونية ... فرسول الله صلى الله عليه وسلم دعا أول ما دعا إلى الوحدانية ونهى عن عبادة الأصنام ، ومع ذلك ظل فى مكة ثلاثة عشر عاما يصلى وهو ومن معه من المسلمين فى الكعبة والأصنام منصوبة فوقها يعبدها المشركون ، لم يفكر هو ومن معه من المسلمين فى تحطيم واحد منها ، ثم هاجر إلى المدينة مكرها ، وظل بها عددا من السنين يدعوا الناس إلى الإسلام حتى التف حوله الناس ، واشتد أزره ، وقوى ساعده ، ورأى فى نفسه وفى أتباعه الكفاءة لملاقاة المشركين بمكة ، فاتجه إليها فاتحا بعد ثماني سنوات من الهجرة ، وانتصر واستسلمت مكة بمن فيها دون قتال ، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرم وأمر بتحطيم الأصنام فأنزلت من فوق الكعبة وحطمت واحدا وهو يقول (( جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا )) تحت سمع حماتها وبصرهم دون أن يحركوا ساكنا أو يرفعوا بذلك رأسا ،ودخل الجميع الإسلام دون حرب ولا دماء ... ولم تعد الأصنام إلى الأبد .

لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر عليه أن تعبد الأصنام وهو يصلى فى الكعبة وحاول تحطيمها فى أول دعوته ، ماذا عسى أن يكون قد حدث له ولدعوته ؟ ... إنه كان سيقتل هو ومن معه وتقتل معه دعوته وهى فى مهدها ، ولما كان هناك فى التاريخ دعوة للإسلام ...

ثم أشرت إلى أن هذا الإجراء من تحطيم للحانات وما أشبهه ليس مما يعجز الإخوان ، فإن عددا قليلا من قطاع الطرق يستطيعون أن يقوموا به ... ثم ما النتيجة من هذا العمل ؟ هل حرمت الخمر فى مصر ؟ هل أغلقت الحانات ؟ ... كل ما كان من نتائج هي أن الخمر استمرت كما هي مباحة ، ولم تغلق الحانات ، أما الحانات التي حطمت فقد عوضتها الحكومة من جيوبنا نحن المصريين بأضعاف قيمة ما تحطم من واجهاتها ومحتوياتها فجددت تجديدا زاد من عدد روادها ... ثم ألقى عدد من الشباب الطاهر البرئ الذي لم يحسن توجيهه فى السجون .. هذا عمل كالطبل الأجوف صوت ضخم يلفت الأنظار ثم تلتفت فلا ترى وراءه شيئا .

ووزعت (( النذير )) فى هذا الأسبوع توزيعا واسعا فالكل متلهف على معرفة موقفنا من التحدي فبقدر ما روجت مصر الفتاة لعملها هذا ووسعت من دائرة الفخر به انتشرت (( النذير )) .. كان لهذا المقال أثر كبير فى أوساط الشباب ، وكان صدمة لمصر الفتاة ، ألجم دعاتها ، وأفحم المتفاخرين من رجالها بل جعلهم يتوارون خجلا ... وبدأ الإخوان فى الكليات يرفعون رءوسهم ويتبوءون مكانهم ، ويواصلون مكاسبهم من المنتسبين لمصر الفتاة وغيرها .

وكان الذي فاجأ الناس أن قرءوا خطابا موجها من المرشد العام إلى وزير العدل يطالبه فيه بالإفراج عن المقبوض عليهم فى هذا الحدث لنيل مقصدهم ، ويحثه فيه على إصدار القوانين التي تطهر البلاد من المنكرات التي تثير النفوس المؤمنة وتحرج الصدور .


لقاء المرشد العام بالملك فاروق :

كان الملك فاروق في ذلك الوقت في مستهل أيامه فقد تولي العرش في عام 1938 ، وكان الناس يتوسمون الخير في الملك الشاب ... وكان الأستاذ المرشد يري أن أقصر طريق لتحقيق أهداف الدعوة ، والأخذ بالأسلوب الإسلامي في إصلاح البلاد إنما يكون بالاتصال بهذا الملك الشاب وإقناعه بالدعوة ... ومعني هذا الإقناع أن يوقن بأن انتهاءه لهذه الدعوة سيصلح البلاد ويحفظ له عرشه .

وفي سبيل إبراز هذه الفكرة إلي حيز الواقع اتصل المرشد برجل محايد كان يأنس في رجاحة عقله وفي صدق وطنيته ونزاهته ، وكان في نفس الوقت من أقرب الشخصيات إلي الملك حيث كان أستاذه من قبل ؛ فذلك هو " علي ماهر " ... وكان علي ماهر من القلائل الذين يتفهمون فكرة الإخوان ويقدرونها كما يقدرون الأستاذ المرشد كل التقدير ، وكان يعرف غير قليل عن قوة الصف الإخواني وتماسكه وكان يري ما كان يراه الأستاذ المرشد من أن أقرب الطرق وأسلمها لإصلاح هذا البلد هو في إقناع الملك بدعوة الإخوان وانتمائه لفكرتهم واستناده إلي صفهم . وكان الإخوان قد أقاموا في صيف ذلك العام معسكراً ضخمًا في "الدخيلة" بجاني الإسكندرية وكان الإخوان من مختلف البلاد يفدون إلي هذا المعسكر ليقيموا فيه أيامًا يرجعون إلي بلادهم ليفد غيرهم ... وكان الأستاذ المرشد شبه مقيم بهذا المعسكر الذي كان مقررًا أن يستمر شهرًا ...

ولقد زرت المعسكر في أواخر الشهر الذي كان محددًا له ضمن مجموعة من إخوان رشيد ، وكنت عازمًا علي قضاء سحابة النهار ثم مغادرته مساء لكن الأستاذ أصر علي بقائنا ثلاثة أيام فنزلنا علي أمره ، ولم أكن أعرف سبب إصراره ولكن تبين لي بعد ذلك أنه كان لأمر هام . كنت أعرف رأي الأستاذ المرشد فيما يتصل بالملك ، ولكني لم أكن أعرف أن استبقاءنا كان ذا علاقة بهذا الشأن حتى جاء اليوم الثالث من فترة بقائنا – وكان يوم جمعة – فإذا بالأستاذ يطلب منا جميعًا أن نرتدي زى الجوالة . ورأيناه قد ارتدي الزى قبلنا ، ثم أخبرنا أن الملك سيؤدي اليوم صلاة الجمعة في مسجد سيدي جابر وبأننا سنكون في استقباله أمام المسجد وبأننا ستصل الجمعة معه ؛ وفهمت بعد ذلك أن هذا الأمر قد اتفق عليه من قبل ، ورتبت خطواته بين علي ماهر والأستاذ المرشد . وقد وضح هذا وضوحًا تامًا ، حين ذهبنا إلي المسجد واصطففنا أمامه وكنا أكثر من مائة جوال يتقدمنا المرشد بملابس الجوالة ، وحضر الركب الملكي يتقدمه الملك بجانبه علي ماهر – وكان في ذلك الوقت رئيسًا للديوان الملكي فيما أذكر – فحييناه هاتفين له وللإسلام ؛ فأخذ علي ماهر بيد الأستاذ المرشد وقدمه للملك فسلم عليه الأستاذ مصافحًا باحترام دون تقبيل يده كما كان العرف في ذلك الوقت – ودون انحناء .

رجعنا بعد صلاة الجمعة إلي معسكرنا ، وكان الأستاذ يشعر بالرضا النفسي لأنه أحس أنه خطا الخطوة الأولي التي كان علي الداعية المصلح أن يبدأ بها ، ثم لا عليه بعد ذلك إن هي لقيت استجابة أم لقيت إعراضًا .. المهم أنه أعذر إلي الله وإلي الناس وإلي التاريخ ... حتى لا يأتي في يوم من الأيام من يقول : لو أن هذا الداعية عرض دعوته علي ولي الأمر قبل أن يسلك بها هذه المسالك . وكنا نعتقد في ذلك الوقت بسذاجتنا وحسن ظننا أن الله تعالي قد اختصر لنا الطريق ، واختار لنا غير ذات الشوكة ، وأن هذا الشاب الذي يبدو وادعًا في مظهره ، وبجانبه الرجل العاقل علي ماهر لابد أنه سيتجه اتجاهًا إسلاميًا فيسعد ويسعد الناس ... ولم نكن نعلم ما خبأه القدر لنا كدعوة ولهذا الشاب كملك طائش مغامر ... وكأنه قد غاب عنا أن حاشية هذا الشاب . وإن كان فيها علي ماهر فإن فيها ألف شيطان .



الأحد، 29 أغسطس 2010

د. محمد حبيب يكتب: مسلسل «الجماعة».. وعبقرية الإمام

د. محمد حبيب يكتب: مسلسل «الجماعة».. وعبقرية الإمام

٢٣/ ٨/ ٢٠١٠ المصري اليوم

كنت قد قررت بينى وبين نفسى أن أبتعد عن أى تعليق على مسلسل «الجماعة» للأستاذ وحيد حامد، الذى يعرض فى هذه الأيام فى عدة قنوات تليفزيونية، ومازلت ملتزما بهذا القرار.. صحيح نحن نتعرض لإلحاح شديد من قبل بعض المراسلين والصحفيين كى ندلى بدلونا حول المسلسل، لكن ما تم بثه حتى الآن لا يفى بتقويم موضوعى ومنصف، بغض النظر عما أثير.. كنت حريصا على متابعة الحلقات، لكنى شُغلت عنها ببعض الأعمال، ولم أر للأسف سوى خمس حلقات.. غير أن هناك بعض النقاط المهمة التى يمكن أن نلفت الانتباه إليها لعلها تفيد القارئ الكريم إن كان من مشاهدى المسلسل، أو حتى من قارئى التعليقات عليه.

أولا: لم يكن الإمام البنا تصادميا فى أى مرحلة من مراحل حياته، بل كان أهم ما يميزه سلاسته وسهولته ولينه ورقته وإنسانيته الرفيعة.. كان محاورا من طراز فريد، محاورا لبقا عميقا مرنا، قوى الحجة، حاضر البديهة واسع الأفق، عالما فقيها، بصيرا بمداخل النفس البشرية ونوازعها.. كان ذا أريحية عالية وأدب جم وخلق قويم وذوق رفيع.

ثانيا: كان الأستاذ الإمام زاهدا، متواضعا، ورعا، تقيا، نقيا، منيبا، عابدا، متبتلا، صواما، قواما، موصولا بالله، مرتبطا بالآخرة..أسره القرآن واستولى على قلبه وجنانه، فكان ينساب على لسانه كما ينساب الماء رقراقا فى الجداول، وكانت له فيه نظرات وتأملات كأنها الفتوحات.

ثالثا: أُشرب الإمام حب أهله ومجتمعه ووطنه وأمته.. شغلته وأهمته قضية الاستقلال، وأقلقته وأرّقته مشكلة النهوض الحضارى للأمة، وأوجعت قلبه وأسالت مدامعه معاناة التعساء والبسطاء من بنى وطنه.

رابعا: آمن الإمام البنا بأن الإسلام هو رسالة الله إلى الناس كافة، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأنه نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا، السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، وكما أنه دين فهو حضارة ينعم فى ظلها الجميع، مسلمين وغير مسلمين، بالعدل والحرية والمساواة والأمن والطمأنينة والسلام، وأن نهضة شعوبنا ورقيها وتقدمها لن تتحقق إلا من خلال الإسلام.

خامسا: لم يكن الإمام البنا مهتما بتأليف الكتب أو التصانيف، أو عمل الدراسات والبحوث، وهى مهمة وضرورية لاشك، وكان رحمه الله قادرا على أن يبرز فيها، لكن اهتمامه الأول كان منصبا على إيقاظ الشعب وإحياء الأمة من خلال تربية رجال يحملون الأمانة ويقومون بالتبعة عبر فكرة سليمة ومنهج واضح وهدف محدد، ومن هنا كانت عبقرية التأصيل الفكرى والحركة المنهجية والتنظيم الدقيق والتكوين المحكم والبناء الشامخ.. من هنا كانت عبقرية التنظيم الهرمى الذى سبق به العالم المتقدم آنذاك، على الأقل بخمس عشرة سنة.

سادسا: كان الأستاذ الإمام ذا نظرة متوازنة، معتدلة، شاملة، كاملة، لديه فقه رصين بالواقع الذى تحياه الأمة، وما يتطلبه ذلك من تحديد واضح لفقه التوازنات والأولويات والمآلات، واهتمام بالأصول لا الفروع، والكليات لا الجزئيات، وهكذا.. كان يفقه تلك المقولة الخالدة للصدّيق رضى الله عنه: «واعلموا أنه لا تقبل لكم نافلة حتى تؤدوا الفريضة».

سابعا: كان الإمام منفتحا على الجميع، يجمع ولا يفرق، يوحد ولا يشتت، يبشر ولا ينفر، ييسر ولا يعسر، يؤمن بأن الإصلاح يأتى من داخل الأنظمة، وليس من خارجها، وذلك عن طريق خطوات ومراحل متدرجة تبدأ بالفرد، فالأسرة، فالمجتمع الذى يفرز الحكومة المعبرة بحق وصدق عن إرادته الحرة.

ثامنا: لقد وضع الإمام البنا القواعد والأصول، من خلال فهمه العميق والدقيق للكتاب والسنة، وسيرة السلف الصالح، والسنن الإلهية، مستفيدا ومستوعبا تجارب الأقدمين والمحدثين، وكان له اجتهاده وفق متطلبات العصر، وفى ظل سياق ومناخ عام معين، محلى وإقليمى ودولى، فى السياسة والاقتصاد والاجتماع.. ومع المتغيرات التى طرأت والمستجدات التى ظهرت، لا بأس أن يكون لنا اجتهادنا فى الفروع، مادام يتم عبر المؤسسات الشورية المعتمدة بشكل صحيح وسليم، ودون إخلال بالقواعد والأصول.

تاسعا: هناك فارق كبير بين أن تتكون صورة ذهنية معينة عن شخص أو مجموعة أشخاص من خلال كلمة مكتوبة، وبين أن تتكون هذه الصورة عبر معايشة، فى الحالة الثانية تكون الصورة أقرب إلى الحقيقة والواقع.. ثمة أمر آخر على قدر كبير من الأهمية، هو أن هناك أشياء لم تكتب ولم تدون بعد، وقد سمعنا من حواريى وتلامذة الأستاذ الإمام حكايات وروايات مذهلة جسدت صورة ما كان لها أن تتكون فى الذهن من خلال القراءة فقط.. لذا كنت أتمنى من الأستاذ وحيد حامد أن لو أعطى لنفسه فرصة الاستماع لكل الأطراف.. نعم كان ذلك يتطلب وقتا وجهدا، لكن الفائدة من ورائه ستكون عظيمة، وسيكون المستفيد الأكبر هو المشاهد، هو الرأى العام.

عاشرا: أرجو من الإخوان ألا ينزعجوا أو تضيق صدورهم بما شاهدوا أو سوف يشاهدون، وأن يتريثوا حتى نهاية المسلسل حتى يكون التقويم شاملا، ومن الجوانب كافة، وأن يضعوا فى اعتبارهم ما يلى:

١- أن رصيد هذه الدعوة فى قلب وذاكرة ووعى الأمة هو رصيد عظيم، تماما كالجبل الراسخ، لا يمكن أن ينال منه معول أيا كان حجمه ووزنه وأيا كانت شراسته وضراوته.. صحيح هناك قطاع من الناس سوف يتأثر، لكن الغالبية من الناس لديها حس سياسى وذكاء اجتماعى يستطيع أن يميز بين ما هو صالح وطالح.. وفى تصورى أن هذا المسلسل سوف يضيف إلى رصيد الجماعة ولا يخصم منه لأسباب كثيرة ليس هنا مقام ذكرها.

٢- أن هذا المسلسل قطع السبيل على من يصف الجماعة بـ«المحظورة»، وصارت الجماعة، بغض النظر عما يقال فى شأنها، متابعة من الأمة كلها.

٣- سوف تكون هناك برامج حوارية على مستوى كثير من القنوات الفضائية، وسوف يدعى إليها بطبيعة الحال الإخوان المسلمون.. لذا أرجو أن يكونوا جاهزين بالعلم والموضوعية والإنصاف والرصانة.

٤- لا ينبغى أن نلقى بالاً لمسألة اختيار توقيت بث المسلسل وأن ذلك سوف تكون له آثاره على الانتخابات القادمة.. وأتساءل: من قال إنها سوف تكون آثارا سلبية؟ ومنذ متى كانت الانتخابات التى تجرى على أرض المحروسة نزيهة أو شبه نزيهة بحيث يقال إن محاولات تشويه الصورة سوف تؤثر سلبا على حقنا؟

■ ■ ■

إن الإمام المجدد حسن البنا كان فردا، لكنه ليس كباقى الأفراد.. كان فى ذاته أمة.. فالناس كما جاء فى الحديث «كإبل مائة لا تكاد تجد فيهم راحلة».. اجتمع له من الخصائص العبقرية والصفات الفذة ما أهله للقيام بدور من أعظم الأدوار، لا أقول فى تاريخ مصر الحديث ولكن فى تاريخ العرب والمسلمين، بل فى تاريخ البشرية فى هذه الحقبة المهمة من عمر الزمان.. إن من الرجال من يصنعهم الله على عينه.. ومنهم من تصنعه الأحداث وتكشف عنه المواقف..ومنهم من تتلقفه يد الإعداد والتربية فتهيئه لصناعة التاريخ.. كان الإمام البنا عالما، فقيها، ملهما، عبقريا، مبدعا، قائدا، زعيما، سياسيا، مربيا.. كان هذا كله، لكنه قبل ذلك وبعده كان ربانيا، فى خواطره وأفكاره وسلوكياته وأخلاقه وتعاملاته وحركاته وسكناته.. أخلص قلبه كله لله.. عاش له ومعه، ركن إلى جنبه، استعان به وتوكل عليه.. فكان الله تعالى له.. كان من هذا الصنف الذى يصنعه الله على عينه.. فى يناير من عام ١٩٩٢ كنت فى بيروت وأتيحت لى فرصة أن ألتقى العلامة محمد حسين فضل الله الذى رحل عن دنيانا منذ أشهر قليلة.. استمر اللقاء حوالى ساعة تقريبا، تحدث فى نصفها الأول عن الأستاذ الإمام المجدد حسن البنا، وقال- فيما أذكره- إنه سبق عصره بنصف قرن من الزمان.

من أسف أننى لم أر الإمام، فقد كان عمرى ست سنوات وقت استشهاده، لكنى عشت دهرا طويلا مع من عايشوه واغترفوا من فضله وعلمه وفقهه وروحه.. تحدثوا عنه كما العشاق المتيمين.. أحبوه حبا ملك عليهم شغاف قلوبهم.. ولم لا وقد رأوا فيه كل جليل وجميل ونبيل؟ قال أحدهم: لقد أدركنا من خلاله كيف كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وقد حكى لى أحد علمائنا الأفاضل أن أحد التابعين قال لواحد من الصحابة: لو كنا مكانكم ما تركنا رسول الله يمشى على الأرض.. ثم استطرد قائلا: كنا حملناه على أعناقنا.. قال عالمنا: وهذا يدل على أن محبة الصحابة لرسول الله كانت أعظم من محبة التابعين له.. قلت: لعلى فهمت العكس.. قال: لا.. قلت: كيف؟ قال: لأن الصحابة هم الذين علموا التابعين كيف تكون عظمة المحبة، وجلال المحبة، وروعة المحبة!.. سألت يوما عمنا وشيخنا الحاج عباس السيسى رحمه الله، وهو من أظرف ظرفاء الإخوان وصاحب ألطف وأرق وأمتع رسالة قرأتها وهى «الذوق سلوك الروح»، سألته أن يصف لى الأستاذ الإمام فى كلمة، فقال: «الرجل المتوهج»، قرأتها للكاتب الأديب أحمد بهجت يصف بها الإمام.

لقد أشعل الإمام البنا فى قلبى وهج الإيمان، وأنار عقلى وبصيرتى بالفهم الدقيق والعميق للإسلام، وساقنى الله عن طريقه إلى درب الهداية والاستقامة والرشاد.. أشعر أن ولادتى بدأت مع فكر الأستاذ الإمام الذى ضمنه مجموعة الرسائل، مذكرات الدعوة والداعية، ومقالاته الثرية، فضلا عن خواطره المتألقة حول معانى القرآن الكريم.. قرأت بعد ذلك عشرات من أمهات الكتب لأئمة أعلام، فما زادنى ذلك إلا اقتناعا بعظمة الإمام.. قبل ذلك لم تكن هناك حياة بالمعنى الحقيقى للحياة.. كانت عدما، بلا هدف واضح ولا رسالة محددة ولا مضمون له قيمة ولا روح لها نصيب من التوثب أو الترقى.. مع الأستاذ الإمام انتقلت إلى العالم الرحب الفسيح.. إلى الحياة مع الله.. مع الآخرة.. مع الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم.. مع المصطفين الأخيار.. مع الشهداء الأبرار.. استطعت أن أطوى صفحة ضيقة وفارغة من حياتى، لأبدأ صفحة بل صفحات أخرى جديدة، شديدة الاتساع وغاية فى العمق، حياة لها قيمة ومعنى ووزن.. لم يكن الإمام البنا مجرد عالم أو فقيه، أو داعية كبقية الدعاة.. كان روحا وثابة، وجدانا متألقا، ومشاعر فياضة تتسلل فى رقة وعذوبة إلى عقلك وقلبك ووجدانك.. كان وهجا يفتح لك آفاق الدنيا بسهولة وسلاسة ويسر، ويأخذ بيدك فى رفق وحنان وعزم وقوة ليدلك على البداية الحقيقية للسيادة والسعادة.

■ ■ ■

لقد تجلّت عبقرية الأستاذ البنا فى استيعابه مجموعة من الدوائر المتشابكة والمتداخلة والمعقدة، الدائرة العالمية، دائرة العالم العربى والإسلامى، دائرة مصر، ودائرة الإخوان.. وبالرغم من كثرة التفاصيل إلا أن كل دائرة من هذه الدوائر كان لها حظها ونصيبها فى عقل وقلب الإمام.. كانت له رؤيته الثاقبة وثقافته الموسوعية وإحاطته الشاملة بما يجرى على مستوى العالم، وما يموج فيه من تيارات سياسية وفكرية ومذهبية وأيديولوجية وفلسفية وبؤر ساخنة وصراعات دموية.. ينظر إلى العالم أفقيا ورأسيا وكأنه يقرأ من كتاب مفتوح.. وهو فى الوقت ذاته مطلع على أحوال العالم العربى والإسلامى بكل ما فيه من مآس وآلام وأحزان، من انحسارات وانكسارات أفقدته ثقته بنفسه وجعلته ألعوبة فى يد غيره، من تخلف علمى وفكرى وجهل ثقافى ومعرفى ومرض بدنى ونفسى ووجدانى، من أزمات ومشكلات، وما يواجهه من تحديات ويفرض عليه من تبعات.. ثم هو دارس وملم بكل تفاصيل المجتمع المصرى من حيث مكامن قوته ونقاط ضعفه فى شتى المناحى، وعلى دراية كاملة بكل ما يحدث على ساحاته الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.. وهو بعد ذلك، أو قبل ذلك، يقوم بهذا العمل الفذ فى تنشئة الإخوان والارتقاء بهم، علميا وفقهيا وروحيا وأخلاقيا، تنظيما وحركة.. إلخ..

كان يعرف من أين يبدأ، فى أى طريق يسير، وإلى أى هدف يتجه.. زودته العناية الربانية بطاقة إيمانية هائلة، وهمة عالية، وإرادة صلبة، وحركة لا تهدأ، وقلب رقيق، وعاطفة جياشة، وحس مرهف، ونفس أبية، وذهن متوقد، وذاكرة مذهلة، وعقل راجح، وحكمة بالغة.. لم يكن ينم سوى ساعتين أو ثلاث على الأكثر فى اليوم والليلة، ثم هو يعمل طول الوقت دون كلل أو ملل، كأنه فى سباق مع الزمن.. وهكذا شأن العباقرة الأفذاذ دائما.. أتته الشهادة التى كان يرجوها، وهو مازال بعد فى الثالثة والأربعين من عمره، وأبى كارهوه والحاقدون عليه أن تكون له جنازة، ولم يقم بتشييعه إلى مثواه الأخير سوى النساء.. رجل واحد فقط هو الذى جاء فى وداعه.. مكرم عبيد!

كان الأستاذ الإمام يعرف كل الإخوان، صغيرهم وكبيرهم، من فى الإسكندرية ومن فى أسوان، من فى المدينة ومن فى القرية.. ثم هو على وعى بكل أوضاعهم وأحوالهم.. من التقاه مرة فى حياته، وإن كان من عامة الناس، لم يحتج ولو بعد سنوات أن يسأله عن اسمه أو حاله ومن أين هو.. فى يوم من الأيام علم أن أخا فى إحدى القرى اعتزل إخوانه بسبب مشكلة بينهم.. ذهب إليه وكان أول ما سأل عنه.. بقرته التى يعتمد عليها، بعد الله تعالى، فى معاشه.. أليس ذلك عجيبا؟

كان لدى الإمام سحره وجاذبيته وقدرته الفائقة على مخاطبة الجماهير، فلا يمل سامعه، ولو مكث ساعات طويلة، بل يعطيه لبه ومشاعره.. كما كانت إمكاناته هائلة فى صياغة أعظم المعانى بعبارات موجزة وكلمات بسيطة، كان أسلوبه سهلا ممتنعا.. له وصايا عشر موجزة، كل الايجاز، لكنها تعد من أجمل وأروع ما كتب فى الدعوة والتربية والاجتماع والسياسة.. انظر إلى وصيته التى يقول فيها: «الواجبات أكثر من الأوقات فعاون أخاك على الانتفاع بوقته، وإن كانت لك مهمة فأوجز فى قضائها».. وانظر أيضا إلى هذه الوصية: «لا تكثر من الجدل فى أى شأن من الشؤون، فإن المراء لا يأتى بخير».. ثم انظر إلى وصيته: «تعرف على من تلقاه من إخوانك، فإن أساس دعوتنا الحب والتعارف»..

وتأمل هذه الوصايا: «قم إلى الصلاة متى سمعت النداء مهما تكن الظروف».. «لا تكثر من الضحك فإن القلب الموصول بالله ساكن وقور».. «تجنب غيبة الأشخاص وتجريح الهيئات، ولا تتكلم إلا بخير».. لقد كان رحمه الله لطيفا ظريفا، لا يجد غضاضة فى مداعبة إخوانه.. حكى لى الأستاذ محمد حامد أبوالنصر رحمه الله، الذى صار مرشدا فيما بعد، أن الإمام البنا نزل عليه ضيفا فى بيته بمنفلوط.. فى الصباح وبعد أن تناولا الإفطار، سأله الأستاذ أبوالنصر: فضيلتكم..تحب الشاى بمفرده واللبن بمفرده، أم نخلطهما معا؟ رد الإمام باسما ولكن بحسم: اسمع يا سيد محمد.. أنا لا أحب الخلط.. الشاى بمفرده واللبن كذلك.

رحم الله الأستاذ البنا وجمعنا به فى عليين، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

السبت، 28 أغسطس 2010

لأ .. وسعت منك قوي .. يا مفتري


الموضوح تحول من الخيال العلمي إلى الأفلام الهندي!!
حسن البنا يذهب إلى تاجر سلاح!!! بنفسه!! ويدور بينهما حوار كوميدي يظهر البنا كأشد الانتهازيين والنصابين والمتاجرين بالدين وبالجهاد!!! ثم مشهد أكثر كوميديا يتعلم فيه حسن البنا طريقة عمل المسدس من الصاغ محمود لبيب!! (مع العلم بأن المسدس الذي اشتراه من تاجر السلاح فى المشهد السابق مختلف تماما عن الذي تعلم عليه!! يعني هيه جت على دي) ثم مشهد داخل الجامعة لطلاب الإخوان البلطجية!! يتحرشون بطلاب الوفد!!! ثم زيارة طنطا التى تحولت إلى مجموعة من الهتافات ثم الهتافات ثم الهتافات !!! ثم الأكل طبعاً!!! في ضيافة البهي الخولي، الذي صوره بصورة شديدة السطحية، ومشهد مع الجوالة ليقنعهم بشرعية زيهم فى وصلة من الزعيق والتهكم على "شيوخ الجوامع"!! ثم توسع منه المسأله .. ويأتي بمشهد تعنيف على ماهر لحسن البنا لأن الإخوان لا يواجهون مظاهرات الوفد!!! ويصاب حسن البنا بالهلع!!لأن الملك هيزعل منه!!! ويشخط على ماهر فى حسن البنا "اسمع لما أقولك.. جلالة الملك فى أشد حالات الضيق!!!" وطبعا يسير الإخوان مظاهرات تهتف "عاش الملك نصير الإسلام !!- الله مع الملك!!!" والحمد لله إنها ما وسعتش أكتر وخلى المظاهرتين يتقابلوا ويضربوا فى بعض على غرار مشهد جامعة عين شمس فى الحلقة الأولى!! ثم يختم الحلقة الهندية بمشهد مضمونه قريب من الحقيقة (تبني الإخوان لنقابة معلمي التعليم الإلزامي) ولكنه كالعادة ملأه بالإيحاءات السلبية والغمز واللمز كما هو الحال فى جميع مشاهد المسلسل تقريبا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

طبعا خزعبلات الحلقة الثامنة عشرة هذه لا تحتاج إلى أكثر من الضحك على هذه الخلطة الغير منطقية (مع الإعتذار لإعلان دولسيكا بالعسلية) وانتظار الأسوأ فى الحلقات القادمة!! (حسب نظرية التطور الطبيعي للحاجة الساقعة، أقصد للحلقات)، وطبعا لست فى حاجة لذكر أن المراجع المظلومة والممتهنة بوضعها فى نهاية الحلقات لا تحتوى على أي من هذه الترهات، وسأبحث بمشيئة الله عن مراجع باللغة الهندية لعلى أجد أثر لهذا الإستهبال!!



الداعية المجاهد البهي الخولي - بقلم / المستشار عبدالله العقيل

معرفتي به

حين أكرمني الله بالتوجه إلى مصر للدراسة بكلية الشريعة سعدت برفقة إخوة كرام قَلّ أن يجود الزمان بمثلهم، ومنهم الأخ الدكتور يوسف القرضاوي، والأخ أحمد العسال، والأخ محمد الصفطاوي، والأخ محمد الدمرداش، وغيرهم من صفوة الشباب المسلم الأزهري، ومن خلال هؤلاء عرفتُ الأستاذ الكبير البهي الخولي الذي كان يتولى توجيههم بالدروس والمحاضرات، وبخاصة دروس الفجر، حيث كان يطلق على هذه المجموعة من الطلاب «كتيبة الذبيح» وقد أهداني الأخ العسّال الكتاب القيم للأستاذ الخولي وهو «تذكرة الدعاة» فقرأته بتأمل، ووجدت فيه من العلم الغزير والزاد الوفير ما يحتاجه كل داعية إلى الله، فهو كتاب قيم لا يستغني عنه الداعية والموجه، والخطيب، والمدرس، والواعظ، والمرشد.

وقد قال عنه الإمام الشهيد حسن البنا في تقديمه: «طالعت هذه التوجيهات، بل المحاضرات في أساليب الدعوة وتكوين الدعاة، فأعجبت بها وهششت لها، وشممت فيها بوارق الإخلاص والتوفيق إن شاء الله، ودعوت الله تبارك وتعالى أن يجعلها نافعة لعباده، موجهة لقلوب الناطقين بكلمته، والهاتفين بدعوته، وليس ذلك غريباً على كاتبها وملقيها الأخ الداعية المجاهد الأستاذ البهي الخولي، فهو بحمد الله صافي الذهن، دقيق الفهم، مشرق النفس، قوي الإيمان، عميق اليقين، أحسن الله مثوبته، وأجزل مكافأته، وبوأنا وإياه منازل من أحب من عباده فرضي عنهم ورضوا عنه»!. اهـ.

وعن هذا الكتاب القيم أقتبس لك فقرات مما قاله مؤلفنا وأستاذنا البهي الخولي ـ رحمه الله ـ: «واعلم يا أخي أن كل إنسان كائناً من كان ينطوي على مناجم إلهية من العبقريات العظيمة وإمداد من العزائم والهمم، وكنوز من الفضائل التي تنضر وجه الحياة، وتزدان بها الإنسانية، ولا سبيل إلى إثارة هذه المناجم النفيسة، إلا أن تثيرها باسم الله العلي الكبير، فاسم الله وحده هو مفتاح هذه الكنوز الربانية المغلقة، ولا يضع الله هذا المفتاح إلا في يد العبد الرباني الذي يتخلق بصفات الربانية الفاضلة، يجاهد نفسه حق المجاهدة ويقمع هواه في غير هوادة، فيفضي ذلك إلى ما شاء الله من بطولة وتوفيق: {وَالَّذِين جاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وإِنَّ الله لَمَعَ الْمُحْسِنين} [العنكبوت: 69].

وأنت واجد تفسير ذلك كله بصورة عملية واقعية في تاريخ الغر الميامين الذين خرّجهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وصاغهم بعين الله أبطالاً، فتحوا أقطار الأرض، لأنهم فتحوا قبل ذلك أقطار النفوس، وأضاؤوا الدنيا بنور الحق، لأنهم أطلعوا شموسه قبل ذلك في حنايا الصدور. وأسعدوا البلاد بنعمة العدل والحرية والإيثار، لأنهم بثقوا ينابيعها قبل في خفايا القلوب، وانبعثوا إلى تخليد الباقيات الصالحات من الأعمال والأخلاق والمبادئ، فأتوا من ضروب البطولات النفسية والمادية ما يدهش الألباب، ويعجز الأبطال، ويشبه الأساطير» اهـ.

وقد كتب المرحوم محمد الغزالي مقالاً تعريفياً بكتاب (تذكرة الدعاة) فقال رحمه الله: «في هذا الكتاب إيمان عميق صادق، وتصوف ناضج مهذب، وثقافة شرعية واسعة، وتحليل منسق للآيات والآثار، قد يدق، وقد يتضح، غير أنه لا يخلو قط من صيغة الإخلاص والحب والحرص الشديد على نفع القارئ وتسديد خطاه إلى الغاية السامية المرسومة له.. ولقد وددت مخلصاً لو أن إخواننا الوعاظ والأئمة والدعاة إلى الله طالعوا هذا الكتاب فهو ذخيرة كريمة يجدر اقتناؤها، وينبغي ألا تخلو مكتبات الإخوان منها»

ثم سعدتُ بالجلوس إليه وهو يلقي دروسه على صفوة من الإخوان، المراد إعدادهم ليكونوا نماذج صادقة للدعاة من حيث الكفاءة العلمية، والتربية الخلقية، والطبيعة التنفيذية، والحركة الدعوية، وكان حديثه في غاية العمق، يغوص على المعاني غوصاً، ويستخرج اللآلئ المكنونة من كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم)، ويعرضها بأسلوب شيق وروح شفافة، وقلب حي مليء بمحبة الله ورسوله، غيور على الإسلام وأهله، حريص على إنقاذ الأمة من الضياع الذي تعيش فيه نتيجة تسلط الأعداء الذين صرفوا الناس عن الإسلام وحاربوا كل مظاهره ومشاعره.



وعن موقف الإخوان من نقابة معلمي التعليم الإلزامي، أنقل لكم من كتاب أحداث صنعت التاريخ:

الاتصال بالتجمعات فى مصر :

ولم يكن بمصر فى ذلك الوقت تجمعات ذات صبغة غير سياسية إلا (( نقابة معلمي التعليم الإلزامي )) حيث لم تكن قد تكونت نقابات مهنية ولا عمالية بعد ؛ فكانت هذه النقابة أكبر تجمع غير سياسي فى البلاد ، ويمتاز هذا التجمع بأنه تجمع مثقف ، وله فروع فى كل أنحاء القطر ، وكان أعضاؤه منتشرين فى العواصم والحواضر والمدن والقرى مهما نأت وصغرت .. ولم تكن هذه النقابة تجد فى مصر من يوليها عطفا ولا اهتماما .

كان الأستاذ المرشد يعرف كل ذلك عن النقابة ، وكان يحس نحوهم بعاطفة لأنه كان منهم فى يوم من الأيام ولأن هذه الفئة كانت فئة مطحونة من شدة ما كانت ترزح تحته من ظلم . فهذا المعلم - وكان المعلمون فى ذلك الوقت لا يعرفون إلا التفاني فى العمل والإخلاص فى أدائه - هذا المعلم كانت الحكومة تنظر إليه نظرة ازدراء فتمنحه أدنى مرتب لموظف فى الدولة ، وتحرم عليه الترقي مهما طالت سنواته فى العمل ... وقد انتهز الأستاذ سعة هذه الدار الجديدة ، وأوسع لهم فيها مكانا يعقدون فيه مؤتمراتهم وتعاون الإخوان معهم فى رفع مظالمهم إلى الحكام .

وهذه المجموعة الكبيرة من المعلمين - مع ما كانت ترمى به من ضيق الأفق وضحالة الثقافة ، أبرزت لنا فى مؤتمراتها بهذه الدار من الأدباء والخطباء والشعراء من يضاهئون الصفوة الممتازة من مشاهير الفنون فى مصر ؛ كم ألقوا من قصائد عصماء وخطب رنانة ؛ ولازالت تطن فى أذني حتى اليوم عبارة جاءت على لسان أحد خطبائهم إذ يقول : قولوا رئيس الوزراء (( ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين ؟ )) .. فكان من أروع ما سمعت من اقتباس .

أما الدعوة فقد اكتسبت الكثير من إفساح المجال فى دارها لمؤتمرات هذه النقابة العتيدة وتعاونها معهم ؛ فلقد شعر هؤلاء الناس بأن هذه الدعوة دعوتهم ، وأنها أجدر الدعوات بالانتماء إليها لأنهل هي وحدها التي فتحت صدرها لهم ولأنها هي دعوة القرآن ؛ فبعد أن كانت مؤتمراتهم عندنا يقتصر الحديث فيها على مطالبهم وشئونهم الخاصة ، رأينا هذه المؤتمرات تتناول شئون الدعوة كما يتناولها الإخوان أنفسهم ولازال عالقا بخاطري شطره من بيت قصيدة عامرة ألقاها أحد شعرائهم فى أحد هذه المؤتمرات وتناول دعوة الإخوان المسلمين ، وكيف أنها ملكت عليه مشاعره ، وصارت كل شئ فى حياته فيقول : يا ليت لي من بردها تكفيني .

وعن طريق هذه النقابة دخلت الدعوة كل مكان حتى النجوع والكفور ، فكان أعضاؤها هم حملة الراية حيثما كانوا ... وقد صاغت الدعوة منهم رجالا حملوا أعباء ، وخاضوا الغمرات ، وكانوا غرة فى جبين الدعوة الإسلامية وما وهنوا وما استكانوا .

كانت هذه الخطوة من الأستاذ المرشد من أعظم الخطوات المباركة التي أقدم عليها ، ودلت حقا على خبرته بالمجتمع الذى يعيش فيه وأعمق وأبعد مدى من خبرة قادة مصر فى ذلك العهد .



الصاغ محمود لبيب :

ضابط من ضباط الجيش ، كان من القلائل الذين كانت تجيش صدورهم بالحسرة علي ما آلت إليه حال بلادهم ، وكانوا يتناجون سرًا فيما بينهم ، وكانوا يبحثون عن وسيلة لإنقاذ هذه البلاد من ذل الاستعمار ، ومن غائلة الفساد الذي نشره في ربوعها . وكان من رعيل عزيز المصري وصالح حرب ، وكان ممن رحلوا إلي تركيا في أثناء أزمتها واضعًا نفسه رهن إشارتها للمحافظة علي الكيان الإسلامي الذي كانت تمثله في ذلك الوقت الخلافة الإسلامية ، وشارك في كل الحركات العسكرية التي قامت في مصر وفي غيرها والتي كانت بواعثها وطنية إسلامية .

وقد أحيل الاستيداع مبكرًا ولذا كان رتبة الصاغ (الرائد) ، ويبدو أن هذا الرجل كان خيرًا بطبعه وكان ميسور الحال ... جاء ذكر اسمه علي لساني مرة أمام والدي رحمه الله فقال لي إنه يعرفه إذ كان والدي منتدباً ناظرًا لمدرسة بوغاز رشيد – وكان ذلك في أوائل الثلاثينيات – فذكر موظفو فنار رشيد أن نقطة السواحل التي بجانبهم جاءها ضابط يرأسها اسمه محمود لبيب من أتقي الناس ومن أحسنهم معاملة لمرءوسيه وللناس جميعًا ، ولم يحضر إلي هذه النقطة ضابط نال إعجاب جميع الناس والكل يحبونه إلا هذا الضابط ، قال لي والدي : وقد تعرفت عليه وجلست معه فشعرت بعاطفته الإسلامية الجارفة وجدتني أحببته ، إلا أن إقامته في هذه النقطة لم تطل .

تعرف هذا الرجل علي الأستاذ المرشد مبكرًا في أواخر الثلاثينيات ، وكان الأستاذ يحبه ويحترمه ، وكان الرجل – وقد تعرفنا عليه – قليل الكلام .. وكان نواة التكوينات الإخوانية في الجيش كما أنه كان المشرف علي تنظيم التدريبات العسكرية للمدنيين من الإخوان سواء من كان منهم في "النظام الخاص" وغيره، وكان هو ممثل الإخوان في لجان الاتصال بين الإخوان وبين الجامعة العربية في إعداد متطوعي الإخوان لحرب فلسطين وكان من القلائل الذين كانوا يفهمون الإسلام دينًا ودولة، وما كاد يعلم بظهور الإخوان المسلمين حتى ألقي بنفسه وماله ووقته وكل مواهبه بين أيديهم ، فقد كانوا أمنيته وحلمه الذي تحقق ... وكان هذا الرجل الصامت من أكثر الإخوان إنتاجًا ، ولم يقبل أن يكون له منصب رسمي من مناصب الهيئة لأنه كان يكره أن يعرف الناس إنتاجه ... ومع أنه لم يكن له منصب رسمي في الدعوة فقد كان الأستاذ المرشد يكل إليه كل ما هو عسكري فيها فكان بمثابة وكيل الدعوة في الشئون العسكرية ... وقد لعب في حرب فلسطين سنة 1948 دورًا عظيمًا .






الخميس، 26 أغسطس 2010

على ماهر .. والشيخ طنطاوي .. والنحاس .. والخيال العلمي

لا أعرف أي تاريخ يخترعه هذا السيناريست؟؟!! ولماذا وضع أسماء المراجع فى نهاية تتر المسلسل ثم قام باختلاق هذا الكم من الخزعبلات التى لا أصل لها فى أي مصدر محترم
قدم السيناريست فى الحلقة السابعة عشرة علاقة على طريقة الخيال العلمي بين على ماهر وحسن البنا وزيارات وحوارات لا أصل لها وكلها تجعل حسن البنا نصاب وانتهازى ومراوغ من الطراز الأول، يحيك المؤامرات لتنصيب الملك خليفة للمسلمين، وينصح بتصوير الملك وهو يصلي ونشر الصورة بين الناس!! لعمل دعاية وشعبية له!! وكذلك حوار وهمي بين حسن البنا والشيخ طنطاوي مختلق ولا أصل له، يظهر فيه حسن البنا كشخص ساذج ولا يعرف ماهي مهمة الحاكم بل ويقول له الشيخ طنطاوي "الدين يفسد السياسة!! والسياسة تفسد الدين!!" ويسكت البنا كأن هذا التخريف حقيقة مقررة لا جدال فيها!! وهى عبارة كاذبة، فالسياسة جزء من الدين والدين يهذب السياسة ويعالج أمراضها، ولقد وصف المستشرق الأمريكي روبير جاكسون مذهب حسن البنا فى السياسة فقال: إن مذهبه السياسي أن يرد مادة الأخلاق إلى صميم السياسة بعد أن نزعت منها، وبعد أن قيل: إن السياسة والأخلاق لا يجتمعان.
وكذلك يستخدم حوار مختلق على لسان مصطفى النحاس ليقرر بعض العبارات المريضة التى يحاول جاهدا أن يصورها وكأنها حقائق راسخة، مثل أن الخلافة كانت أيام الخلفاء الراشدين فقط!! وأن الإخوان يريدون الدولة الدينية التى تحكم بالحق الإلهي؟!!؟ وهي بالطبع لا تقبل النقد لأن أي نقد سيكون موجها للمولى عز وجل!!
ولم يكتف بكل ما سبق، بل كذلك اختلق لقاء بين على ماهر وشيخ الأزهر لقراءة الفاتحة على جعل فاروق خليفة المسلمين!!؟
وحقيقة الموضوع كما تظهره المراجع المظلومة والممتهنة بوضعها بعد كل هذا الكذب والتدليس، أن حسن البنا كان يتمنى أن يأخذ هذا الملك الشاب طريق الإلتزام والصلاح، فيكون ذلك مفيدا للدعوة ويكون اختصارا للوقت والجهد، فلم يزد على أنه قاد فريق الجوالة لمقابلة الملك فى مسجد سيدي جابر بالأسكندرية إعذارا إلى الله وإلي الناس وإلي التاريخ ... حتى لا يأتي في يوم من الأيام من يقول : لو أن هذا الداعية عرض دعوته علي ولي الأمر قبل أن يسلك بها هذه المسالك.

وموضوع تصوير الملك وهو يصلي يرد عليه ورقة بخط حسن البنا موجهة لسكتير جريدة المصور يطلب منه عدم نشر بعض الصور وفى أحدها شخص يصلي وكان تعليق حسن البنا لاعتراضه على نشر هذه الصورة "ولا أشجع أن يعلن عن صلاة أو تعبد فتلك لله وحده "
وبالمرة فسبب اعتراضه على الصورة الأولى أنها يظهر فيها شخص يقبل يد آخر، "فإني في الحقيقة أكره أشد الكراهية عادة تقبيل اليد" وهذا طبعا فيه الرد المفحم على المنظر المتكرر للإخوان يقبلون يده وهو فى غاية السعادة بهذا الفعل!!!


النص الكامل للورقة المكتوبة بخط حسن البنا:
سعادة سكرتير تحرير المصور
تحية مباركة وبعد فأبعث إلى حضرتكم هذه الصور مع أطيب أمنياتي وأعتذر إلى إدارة التحرير راجيا التكرم بألا تنشر الصور الثلاث المرقمة 2 ،3 ،4 إذ أنها شخصية بحتة وغير طبيعية فإني في الحقيقة أكره أشد الكراهية عادة تقبيل اليد ولا أشجع أن يعلن عن صلاة أو تعبد فتلك لله وحده كما أن وقفة هذا الأخ بالتليفون قد تعطي القراء غير ما تحمل في حقيقتها من حب وتعارف بيننا نحن الإخوان الذين لارئيس فينا ولامرءوس إلا مقررون النظام فقط لهذا أرجو التكرم بعدم نشر هذه الصور الثلاث وفي
الخمس الباقية الكفاية وشكر الله لكم وجزاكم خيرا وتقبلوا احترامي
المخلص
حسن البنا


لقاء المرشد العام بالملك فاروق : منقول من كتاب الأخوان المسلمون - أحداث صنعت التاريخ

كان الملك فاروق في ذلك الوقت في مستهل أيامه فقد تولي العرش في عام 1938 ، وكان الناس يتوسمون الخير في الملك الشاب ... وكان الأستاذ المرشد يري أن أقصر طريق لتحقيق أهداف الدعوة ، والأخذ بالأسلوب الإسلامي في إصلاح البلاد إنما يكون بالاتصال بهذا الملك الشاب وإقناعه بالدعوة ... ومعني هذا الإقناع أن يوقن بأن انتهاءه لهذه الدعوة سيصلح البلاد ويحفظ له عرشه .

وفي سبيل إبراز هذه الفكرة إلي حيز الواقع اتصل المرشد برجل محايد كان يأنس في رجاحة عقله وفي صدق وطنيته ونزاهته ، وكان في نفس الوقت من أقرب الشخصيات إلي الملك حيث كان أستاذه من قبل ؛ فذلك هو " علي ماهر " ... وكان علي ماهر من القلائل الذين يتفهمون فكرة الإخوان ويقدرونها كما يقدرون الأستاذ المرشد كل التقدير ، وكان يعرف غير قليل عن قوة الصف الإخواني وتماسكه وكان يري ما كان يراه الأستاذ المرشد من أن أقرب الطرق وأسلمها لإصلاح هذا البلد هو في إقناع الملك بدعوة الإخوان وانتمائه لفكرتهم واستناده إلي صفهم . وكان الإخوان قد أقاموا في صيف ذلك العام معسكراً ضخمًا في "الدخيلة" بجاني الإسكندرية وكان الإخوان من مختلف البلاد يفدون إلي هذا المعسكر ليقيموا فيه أيامًا يرجعون إلي بلادهم ليفد غيرهم ... وكان الأستاذ المرشد شبه مقيم بهذا المعسكر الذي كان مقررًا أن يستمر شهرًا ...

ولقد زرت المعسكر في أواخر الشهر الذي كان محددًا له ضمن مجموعة من إخوان رشيد ، وكنت عازمًا علي قضاء سحابة النهار ثم مغادرته مساء لكن الأستاذ أصر علي بقائنا ثلاثة أيام فنزلنا علي أمره ، ولم أكن أعرف سبب إصراره ولكن تبين لي بعد ذلك أنه كان لأمر هام . كنت أعرف رأي الأستاذ المرشد فيما يتصل بالملك ، ولكني لم أكن أعرف أن استبقاءنا كان ذا علاقة بهذا الشأن حتى جاء اليوم الثالث من فترة بقائنا – وكان يوم جمعة – فإذا بالأستاذ يطلب منا جميعًا أن نرتدي زى الجوالة . ورأيناه قد ارتدي الزى قبلنا ، ثم أخبرنا أن الملك سيؤدي اليوم صلاة الجمعة في مسجد سيدي جابر وبأننا سنكون في استقباله أمام المسجد وبأننا ستصل الجمعة معه ؛ وفهمت بعد ذلك أن هذا الأمر قد اتفق عليه من قبل ، ورتبت خطواته بين علي ماهر والأستاذ المرشد . وقد وضح هذا وضوحًا تامًا ، حين ذهبنا إلي المسجد واصطففنا أمامه وكنا أكثر من مائة جوال يتقدمنا المرشد بملابس الجوالة ، وحضر الركب الملكي يتقدمه الملك بجانبه علي ماهر – وكان في ذلك الوقت رئيسًا للديوان الملكي فيما أذكر – فحييناه هاتفين له وللإسلام ؛ فأخذ علي ماهر بيد الأستاذ المرشد وقدمه للملك فسلم عليه الأستاذ مصافحًا باحترام دون تقبيل يده كما كان العرف في ذلك الوقت – ودون انحناء .

رجعنا بعد صلاة الجمعة إلي معسكرنا ، وكان الأستاذ يشعر بالرضا النفسي لأنه أحس أنه خطا الخطوة الأولي التي كان علي الداعية المصلح أن يبدأ بها ، ثم لا عليه بعد ذلك إن هي لقيت استجابة أم لقيت إعراضًا .. المهم أنه أعذر إلي الله وإلي الناس وإلي التاريخ ... حتى لا يأتي في يوم من الأيام من يقول : لو أن هذا الداعية عرض دعوته علي ولي الأمر قبل أن يسلك بها هذه المسالك . وكنا نعتقد في ذلك الوقت بسذاجتنا وحسن ظننا أن الله تعالي قد اختصر لنا الطريق ، واختار لنا غير ذات الشوكة ، وأن هذا الشاب الذي يبدو وادعًا في مظهره ، وبجانبه الرجل العاقل علي ماهر لابد أنه سيتجه اتجاهًا إسلاميًا فيسعد ويسعد الناس ... ولم نكن نعلم ما خبأه القدر لنا كدعوة ولهذا الشاب كملك طائش مغامر ... وكأنه قد غاب عنا أن حاشية هذا الشاب . وإن كان فيها علي ماهر فإن فيها ألف شيطان .

يقول روبير جاكسون في كتابه (حسن البنا.. الرجل القرآني):

في فبراير سنة 1946م كنت في زيارة للقاهرة، وقد رأيت أن أقابل الرجل الذي يتبعه نصف مليون شخص، وكتبت في النيويورك كرونيكل بالنص: "زرت هذا الأسبوع رجلاً قد يصبح من أبرز الرجال في التاريخ المعاصر، وقد يختفي اسمه إذا كانت الحوادث أكبر منه؛ ذلك هو الشيخ حسن البنا زعيم الإخوان، وقد صدقتني الأحداث فيما ذهبت إليه، فقد ذهب الرجل مبكرًا، هكذا الشرق لا يستطيع أن يحتفظ طويلاً بالكنز الذي يقع في يده، لقد لفت هذا الرجل نظري بصورته الفذَّة عندما كنت أزور القاهرة بعد أن التقيت بطائفة من الزعماء المصريين ورؤساء الأحزاب، خلاَّب المظهر، دقيق العبارة، بالرغم من أنه لا يعرف لغةً أجنبيةً..

وأفاضوا في الحديث على صورة لم تقنعني، وظل الرجل صامتًا، حتى إذا بدت له الحيرة في وجهي، قال لهم قولوا له: هل قرأت عن محمد؟ قلت: نعم، قال: هل عرفت ما دعا إليه وصنعه؟ قلت: نعم، قال هذا هو ما نريده، وكان في هذه الكلمات القليلة ما أغناني عن الكثير.. لفت نظري إلى هذا الرجل سمته البسيط، ومظهره العادي، وثقته التي لا حدَّ لها بنفسه، وإيمانه العجيب بفكرته... كنت أتوقع أن يجيء اليوم الذي يسيطر فيه هذا الرجل على الزعامة الشعبية، لا في مصر وحدها، بل في الشرق كله.

كان الرجل عجيبًا في معاملة خصومه، لا يصارعهم بقدر ما يحاول إقناعهم وكسبهم إلى صفِّه، وكان يرى أن الصراع بين هيئتين لا يأتي بالنتائج المرجوَّة، وكان يؤمن بالخصومة الفكرية ولا يحوِّلها إلى خصومة شخصية، ولكنه مع ذلك لم يسلم من إيذاء معاصريه ومنافسيه، فقد أعلنت عليه الأحزاب حربًا عنيفةً.

كان حسن البنا الداعية الأول في الشرق الذي قدَّم للناس برنامجًا مدروسًا كاملاً، لم يفعل ذلك أحد قبله.. كان مذهبه السياسي أن يردَّ مادة الأخلاق إلى صميم السياسة بعد أن نُزعت منها، وبعد أن قيل: إن السياسة والأخلاق لا يجتمعان، وكان يريد أن يكذب قول تاليران: "إن اللغة لا تُستخدم إلا لإخفاء آرائنا الحقيقية"، فقد كان ينكر أن يضلل السياسي سامعيه أو أتباعه أو أمته، وكان يعمل على أن يسمو بالجماهير ورجل الشارع، فوق خداع السياسة، وتضليل رجال الأحزاب.

من أبرز أعمال هذا الرجل أنه جعل حب الوطن جزءًا من العاطفة الروحية، فأعلى قدر الوطن، وأعزَّ قيمة الحرية، وجعل ما بين الغني والفقير حقًّا وليس إحسانًا، وبين الرئيس والمرءوس صلةً وتعاونًا وليس سيادةً، وبين الحاكم والشعب مسئوليةً وليس تسلطًا، وتلك من توجيهات القرآن، غير أنه أعلنها هو على صورة جديدة لم تكن واضحةً من قبل".

الأربعاء، 25 أغسطس 2010

عودة حسن البنا من الحج

صور السيناريست عودة حسن البنا من الحج مثل موالد العامة وعمل زفة كبيرة !! والهتافات على جانبي الطريق!!! ثم صور حفل الاستقبال للمرشد فى دار الإخوان كله مديح وإطراء، بل وعندما اعترض أحد المارة على هذه الهيصة !! نهره أحد الإخوان بفظاظة؟!!
وطبعا عند الرجوع للمراجع التى ذكرها السيناريست، تتعرف على مدى الإنحطاط والبجاحة منقطعة النظير، حيث كان الاحتفال منصب على الاستفادة من الحج ووضع اسس جديدة للدعوة وبدأ الحفل فقط بنشيد ترحيب بعد تلاوة القرآن
إقرأ بنفسك ماذا كتب الأستاذ محمود عبد الحليم فى كتابه أحداث صنعت التاريخ عن موضوع الحج


الحج :

قدمت أن الأستاذ المرشد قد كاشفنا بأن فكرة الهجرة بالدعوة إلى بلد آخر من البلاد الإسلامية يكون أقرب إلى الإسلام من مصر قد سيطرة على تفكيره وملأت نفسه، ولكنه لم يقدم على هذه الخطوة حتى يحدد أي هذه البلاد الإسلامية أشد قربا من الإسلام ، وخير وسيلة لتحديد هذا البلد هو الحج ، فإن الحج يجمع جميع الطبقات من جميع بلاد العالم الإسلامي .. فإذا اختلطنا بهذه الطبقات من جميع هذه البلاد استطعنا أن نقيم كل بلد من البلاد الإسلامية تقيما صحيحا . وقد صحب الأستاذ المرشد فى هذا الحج مائة من الإخوان من مختلف البلاد المصرية وقد وحد زيهم جميعا فكل منهم يرتدى جلبابا أبيض وطاقية بيضاء .

وسافر وفد الحجيج وقلوبنا ترفرف عليهم حيث كانوا وأديت فريضة الحج بالوقوف بعرفة وبعد أيام قلائل جاءنا البريد بطرد كبير فتحناه فإذا هو مجموعة من العدد الأخير من جريدة (( أم القرى )) وهى الجريدة الوحيدة التي تصدر فى السعودية فى ذلك الوقت وكانت جريدة شبه رسمية ، فتعجبنا من وصول هذه الجريدة إلينا لأول مرة فقد كانت تصلنا من بلاد إسلامية أخرى مجلات وصحف ولكن هذه الجريدة لم تصلنا إلا هذه المرة ولكنها إذ تصل تصلنا منها هذه الكمية الضخمة ، وتصفحنا الجريدة وكانت قليلة الصفحات فوجدنا يشغل مكان الصدارة فيما خطاب للأستاذ حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين ألقاه فى مؤتمر عظماء المسلمين فى الحج ، وقد لاحظنا أن الخطاب على طوله - فهو يشغل أكثر صفحات الجريدة - ليس إلا مجموعات من آيات القرآن الكريم لا يفصل كل مجموعة منها عن الأخرى إلا سطر أو سطران من كلام الأستاذ المرشد

الرجوع من الحج بمفاجآت ومفاهيم جديدة :

كنا نعول الكثير على رجوع الأستاذ المرشد من الحج ، فإن مستقبلنا ومستقبل الدعوة كان متوقفا على نتائج هذه الرحلة ، وقد أعددنا لاستقباله كل ما نستطيع إعداده ، وعلى سبيل المثال كلفنا الأستاذ عبد الرحمن الساعاتي بوضع نشيد نستقبله به فأنشأ نشيدا جميلا لا يحضرني الآن إلا مطلعه الذى يقول :

مرحبا يوم قدوم المرشد

عمت الأفراح أرجاء الندى

وقدمنا اليوم كما نهتدي

وكنا نتمرن جميعا على إنشاده معا ، كما أننا حشدنا أكبر عدد من الإخوان بالقاهرة وغيرها حتى امتلأ فناء الدار لأول مرة مع أضواء ساطعة فى أنحائه . وقد حضر الأستاذ المرشد إلى دار المركز العام قبل أن يذهب إلى منزله فلم يره أهله وأبناؤه إلا بعد انتهاء الحفل .

وبدأ الحفل بتلاوة القرآن الكريم ثم ألقينا النشيد ثم تكلم الأستاذ عمر التلمساني المحامى - وكانت هذه أول مره أراه فيها - وأذكر أنه افتتح كلمته بقوله : يسير على من صناعته الكلام أن يقول ويترجم عن مشاعره ولكنى أراني عاجزا عن القول .....)) ثم ألقى الشيخ محمد زكى إبراهيم قصيده رائعة كانت تقاطع أكثر أبياتها بالهتاف والتكبير - ولم تكن الكلمات التي تلقى سواء منها الشعر والنثر إلا كلمات هادفة عظيمة المدلول - ولازال يطن فى أذني من هذه القصيدة استعيد أكثر من مرة لروعته يقول فيه :

وصلاح الدين فى عمته :: هد دنيا قبعات علنا

وناهيك بما تضمنه هذا البيت من معان تهدم دعاوى كانت رائجة فى ذلك الوقت ، وكان يدعو لها حتى رؤساء الوزارات فى مصر ورؤساء الأحزاب ، فقد صرح رئيس حزب الوفد - مصطفى النحاس - وكان رئيسا للوزراء بأنه معجب بحركة أتاتورك بدون تحفظ - وتتلخص حركة أتاتورك هذه فى أنه قضى على الدين الإسلامي ، ولبس القبعة وأمر الأتراك بلبسها ، حتى اللغة التركية أمر بكتابتها بالحروف اللاتينية بعد أن كانت تكتب بالحروف العربية ، مدعيا أن هذه الحركة ستجعل من تركيا دولة عظيمة .

ثم قام الأستاذ المرشد ليلقى كلمته التي كنا نزن كل حرف منها بميزان ، وأستطع أن أقرر أن هذه الكلمة كانت من أهم وأعظم ما صدر عن الأستاذ المرشد لأنها وضعت أسسا جديدة للدعوة وغيرت كثيرا من المفاهيم ، وأوضحت السبيل وحددته ، ويمكن تلخيص ما اشتملت عليه هذه الكلمة فى نقاط ثلاث :

أولا :ذكر الأستاذ المرشد أن همه كله كان منصبا على الالتقاء بوفود المسلمين من مختلف الطبقات من كل بلد إسلامي فى العالم ، والتحدث معهم ، ودراسة أحوالهم، ومناقشة مشاكلهم ، والتعرف على مستواهم الحضاري والثقافي والديني ، ومعرفة مدى تسلط المستعمر على بلادهم ، ومستوى فهمهم للإسلام وعلاقته بالحياة . قال : وقد اتصلت بالمحكومين والحكام فى كل بلد من البلاد الإسلامية وخرجت من ذلك باقتناع تام بأن فكرة الهجرة بالدعوة أصبحت غير ذات موضوع وأن العدول عنها أمر واجب ، فمصر على ما فيها من عيوب هي أحسن بيئة للدعوة الإسلامية.

ثانيا : أن دراسة أحوال المسلمين فى البلاد الإسلامية فى أنحاء العالم ضاعفت العبء الملقى على عواتقنا فقد كنا نعتقد أن هذه البلاد ستكون عونا لنا على لإصلاح مصر ، فتبين لنا أنها هي فى ذاتها عبء يقتضى منا بذل أضعاف ما نبذله فى مصر لمجرد بعث الحياة فيها ، فالبون شاسع بين مستوى هذه البلاد ومستوى مصر سواء فى الدنيا أوفى الدين .

ثالثا : أن فكرة ترجمة القرآن فكرة ساذجة وخاطئة بل وجريمة قد لا تعدلها جريمة ترتكب فى حق الإسلام ، وساق فى إثبات ذلك مثلا واقعيا فقال : لعلكم تعجبتم حين وصلكم نحو مائة نسخة من جريدة أم القرى وفى صدرها كلمة لي .... إن لهذا الموضوع قصة هي غاية الأهمية ، وتجربة فى الدعوة الإسلامية لم تكن تخطر ببالي ولا ببال أحد ، تجربة فسرت آيات فى كتاب الله لم نكن نفهمها على وجهها الصحيح ، وقال إنني سافرت إلى الحج ولم أكن إلى فكرة ترجمة القرآن بنفس الخطورة التي أصبحت الآن أنظر إليها .

قال : اعتاد الملك عبد العزيز آل سعود أن يدعو كل عام كبار المسلمين الذين يفدون لأداء فريضة الحج إلى مؤتمر بمكة المكرمة تكريما لهم وليتدارسوا أحوال المسلمين فى العالم ، وكان فى وفود الحجاج من كل بلد إسلامي فى العالم وزراء وأمراء وزعماء سواء فى ذلك البلاد العربية وغير العربية فكان من مصر مثلا الدكتور محمد حسين هيكل ومن سورية ولبنان والعراق واليمن وإمارات الخليج وشمال أفريقية حكام وزعماء وكان من بلاد أفريقية الوسطى والجنوبية ومن جميع البلاد الإسلامية فى أسيا ومن جاليات المسلمين فى أمريكا الجنوبية وأوربا ؛ كل هؤلاء وجهت إليهم الحكومة السعودية دعوات لحضور هذا المؤتمر ؛ وطبعا لم توجه إلينا دعوة باعتبارنا من عامة الحجاج .

قال : علمت بموعد هذا المؤتمر وبمكانه الذى سينعقد فيه ، فأعددت نفسي والإخوان المائة فى هيئة موحدة هي الجلباب الأبيض والطاقية البيضاء ... وفى الموعد المحدد فوجئ عليه القوم المجتمعون بمائة رجل فى هذه الهيئة يخطون خطوة واحدة يتوسط الصف الأول منهم رجل هو المرشد العام ... فكان هذا حدثا منيرا للالتفات ... ودخل هؤلاء فاتخذوا أماكنهم فى نهاية الجالسين ؛ وبدأ المؤتمر بكلمة ترحيب من مندوب الملك .

ثم قام مندوب من كل بلد إسلامي فتكلم بلغه بلاده ؛ فألقيت عشرات الخطب بعشرات اللغات ومنها العربية التي ألقى بها الدكتور هيكل وأمثاله ممثلو الدول العربية ... يقول الأستاذ المرشد : وقد لاحظت أن الحاضرين يبدو على وجوههم السأم وغلب على أكثرهم اللوم ... وقد ناقشت هذه الظاهرة مع نفسي وأدرتها فى خاطري فوجدت أن السأم والنوم أمر تمليه الطبيعة البشرية فمادام السامع لا يفهم ما يقال - وهو لا يستطيع أن يغادر المؤتمر - فمن حقه أن يسأم وأن يستسلم للنوم قال فصبرت حتى انقضت الساعات الطوال التي استغرقها المندوبون فى إلقاء خطاباتهم واستغرقها الحاضرين أن يتقدم بملاحظاته إن كان له ملاحظات ... قال الأستاذ : فطلبت الكلمة واعتليت المنصة وارتجلت كلمة كانت أطول كلمة ألقيت ، وكانت الكلمة الوحيدة التي أيقظت الحاضرين ، وفوطعت بالإعجاب ، واهتزت لها المشاعر ، وبعثت فى المؤتمر جوا من الحيوية الدافقة وما كدت أنهى كلمتي حتى أقبلت على جميع الوفود تعانقني ، وتشد على يدي ، وتعاهدني وتطلب التعرف على وعلى من معي ، وتفتح قلوبها للفكرة التي تضمنها كلمتي .

يقول الأستاذ المرشد : لقد أحسست وأنا جالس فى المؤتمر بأن المستعمر أفلح فى القضاء على أسباب التفاهم بين البلاد الإسلامية بعضها وبعض بالقضاء على اللغة العربية فيها وإحلال لغة غيرها محلها ؛ فاندونيسيا تتكلم بلغة اندونيسية والهند بلغة هندية والصين بلغة صينية ونيجيريا بلغة نيجيرية وغانا وغينيا وهكذا ... وفكرت فأسعفني خاطري بأن الشئ الوحيد الذى لا يزال باقيا بلغته العربية ويقرأه الجميع بألفاظه العربية لأن العبادة لا تكون إلا بألفاظ التي أنزل بها هو القرآن . فالكل على اختلاف بلاده ولغاته ولهجاته يفهمه : فعزمت على أن تكون كلمتي كلها آيات من القرآن أرتبها ترتيبا يوضح كل ما فى نفسي من معاني الإسلام وأهدافه ووسائله ، وكيف يعالج النفس البشرية ويضع حلولا للمشاكل الحيوية ، ولاحظت من أول آية بدأت بها كلمتي أنني ضربت على الوتر الحساس فى قلب كل جالس فى المؤتمر ، وأحسست أن كل كلمة من آية أتلوها تقع من قلوب الحاضرين موقعها ، وتفعل فى نفوسهم فعلها ؛ حتى ذاب الثلج الذى جمد المشاعر طيلة الساعات السابقة ، وبدأ الدف حتى غلت مراجل القلوب والتهبت المشاعر وكان لابد فى نهاية الكلمة من تجمع هذه القلوب والتفافها .

ويمكن تلخيص نتائج هذه الكلمة وأثارها فى الآتي :-

1- أثبتت بما لا يتطرق إليه شك أن وجود القرآن باللغة العربية هو الرباط الأبدي الوحيد بين المنتمين إلى الإسلام حيثما كانوا ومهما اختلفت ألسنتهم وثقافتهم ، وأنه فى صورته هذه التي نزل بها من السماء هو بمثابة الروح فى جسد هذه الأمة الإسلامية ، وأنه هو كلمة السر التي متى سمعها المسلم أنس بقائلها ، وأحس أن بجانبه أخا يحبه ويفتديه مهما اختلفا بعد ذلك فى كل شئ .

2- تبين تبينا قاطعا أن فكرة ترجمة القرآن ، إما أن تكون فكرة قوم من المسلمين بلغوا من السذاجة حدا يؤسف له ، وإما أن تكون وليدة تفكير استعماري تبشيري خطير للقضاء على آخر رباط يربط الجسد الممزق ، أو هو قطع الشريان الوحيد الباقي فى هذا الجسد ، ولذا كان على المسلمين أن يقفوا لهذه الفكرة المدمرة بالمرصاد .. وتبين كما قال الأستاذ المرشد أن قول الله تعالى عن كتابه العزيز : (( إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون )) معناه أن هذا القرآن لا يكون قرآنا إلا إذا كان عربيا وما كنا نعقل حقا ولا كان أحد يدور بخلده قبل هذا المؤتمر أن عروبة اللغة هي جزء من القرآن لا يتجزأ وأن العروبة اللغوية الأزمة له هي السر الخفي الذى تتحطم على صخرته مؤامرات الأعداء ومكائد الحاقدين على هذا الدين ... وعلى حد قول الأستاذ فى كلمته التي ألقاها فى تلك الليلة فى دار المركز العام إذ قال : إن كان لابد من ترجمة فلتترجم الأمم إلى القرآن ، لا أن القرآن تترجم إلى الأمم .

3- أحس الحاضرين لأول مرة بحرارة التيار الإسلامي يسرى فى مشاعرهم ، ورأوا لأول مرة أن العالم الإسلامي قد تمخض عن داعية من نوع جديد لم يألفوا له مثيلا من قبل ؛ فهو قادر على إثارة المعاني الإسلامية فى النفوس ، وقادر على جذب القلوب بالجاذبية الإلهية التي هي القرآن ، وقادر على جمع المتنافر منها تحت راية الإسلام ، وقادر على بث روح الأخوة التي تصهر النفوس فى بوتقة الإسلام ، فهرع الجميع يلتفون حول هذا الداعية الجديد ، ومن هنا سارعت (( أم القرى )) إلى نشر الخطاب بنصه فشغل معظم صفحاتها ، ولم تنشر إلى غيره . وبدأ أل سعود يتعرفون على الداعية الجديد .

4- بقدر ما كان لهذه الظاهرة الإسلامية الرائعة من أثر طيب فى نفوس جميع الوفود فيبدو أنها لم تقع من نفس الموقع ، فقد شعر هذا الوفد بالمهانة حين رأى جميع الوفود انفضت عنه ولم نعره اهتماما وهم الوزراء وكبار الساسة وأصحاب البلاد وسادة العباد ، والتفوا حول هذا الرجل النكرة الذى لم يسمعوا عنه ولم يعرفوا اسمه إلا فى هذا المؤتمر ... وسوف نتحدث فى باب قادم إن شاء الله عن أحداث وقعت فى مصر نتيجة هذا الشعور الأثيم .




نظام الكتائب

صور السيناريست نظام الكتائب بصورة قريبة من الحقيقة، ولكنه وضع السم كعادته ليغير الناتج النهائي إلى صورة شديدة السلبية، فقال على لسان مسئول الكتيبة "ليكون إخلاصنا للجماعة ومرشدها"!!! والإخلاص لا يكون إلا لله سبحانه، وكذلك الإيحاءات والغمز واللمز الذي لا يكاد يخلوا منه مشهد
وإليكم نظام الكتائب كما ذكره الأستاذ محمود عبد الحليم فى كتاب "الأخوان المسلمون - أحداث صنعت التاريخ" وتجدونه كاملا على الرابط


الأخذ بأساليب عملية في التكوين والتربية ونشر الدعوة :

الأسلوب الأول : نظام الكتائب :

نظام الكتائب نظام فريد مبتكر ، ولعل الأستاذ المرشد قد اشتقه من اجتماعات دار الأرقم بن أبي الأرقم حيث كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يجمع المؤمنين به في ذلك الوقت المبكر – وكانوا قلة – فيبثهم ما عنده ، ويفضي إليهم بذات نفسه ويأخذهم بأسلوب من التربية الروحية العالية حتى خرج من تلك الدار المتواضعة من كانوا أعلام الهدي ومن حملوا شعلة النور الإسلامي فأضاءوا بها جنبات الدنيا .... وهذا النظام بين مختلف أنظمة التكوين بعد نظام التكوين المركز وأسلوب التربية العميقة المباشر لأنه وحده هو النظام الذي يجد فيه الموجه والموجه نفسيهما متجردين متفرغين كل منهما للآخر وجهًا لوجه لا تشغل أيًا منهما عن نفسه ولا عن صاحب شاغله فيكون القلب والعقل معًا في أسمي حالات التهيؤ للتلقي والإلقاء وبالتعبير الحديث للاستقبال والإرسال.

وكان في نية الأستاذ المرشد أنه يتدرج في إنشاء الكتائب حتى يسلك فيها كل إخوان المركز العام علي أن يقوم هو بنفسه فيه بدور التوجيه والتربية ، فبدأ أول خطوة فيه بأن جمع من الرعيل الأول أربعين أخاً كانوا هم الكتيبة الأولي ثم لبث أن جمع أربعين آخرين فكانوا الكتيبة الثانية وكان النظام يقتضي أن تتم كل كتيبة أربعين أسبوعًا .

ويتلخص نظام الكتيبة في الآتي :

1 – تبيت الكتيبة ليلة في الأسبوع في المركز العام ويبيت معهم الأستاذ المرشد .

2 – يصلون مع الأستاذ المرشد المغرب والعشاء .

3 – يتناولون طعام العشاء معًا طعامًا رمزيًا .

4 – يتذاكرون معًا ويتسامرون .

5 – بعد صلاة العشاء بوقت قصير ، وفي لحظة محددة ينامون علي الأرض في حجرة واحدة واسعة ، ويتخذ كل منهم حذاءه وسادة له وينام الأستاذ المرشد معهم علي نفس الهيئة .

6 – يستيقظون قبل الفجر بساعتين ويتوضئون ويتهجدون بعض ركعات فرادي .

7 – نطفأ الأنوار ويجلسون منصتين إلي تلاوة نحو جزء من القرآن الكريم يتلوه قارئ الكتيبة وكان الدكتور محمد أحمد سليمان .

8 – يضاء النور ويستمعون إلي درس من الأستاذ المرشد في التكوين النفسي والروحي والعلمي للداعية مع عرض لتاريخ الدعوات والدعاة ، وبيان مواطن الضعف في كل منها وفي كل منهم ، وما يقابل ذلك في الدعوة الإسلامية وكيف يتجنب الداعية مواطن الضعف التي عصفت بسابقيه .

9 – فترة قبيل الفجر للاستغفار .

10- أذان الفجر ثم صلاة الفجر خلف الأستاذ المرشد .

11- توزيع الورد القرآني علي أعضاء الكتيبة وقيام الأستاذ المرشد بتفسيره تمهيدًا لحفظه ، والورد القرآني هو ورقة يجمع فيها الأستاذ المرشد الآيات القرآنية ذات الهدف الواحد ، فورد للإيمان وورد للوفاء وورد للجهاد وورد للتفكر وهكذا ، وسأحاول عرض بعض أمثلة من هذه الأوردة في نهاية الكتابة عن هذا الأسلوب من أساليب التربية إن شاء الله .

12- فإذا طلعت الشمس قرأ الجميع معا في صوت خافت " الوظيفة " وهي أدعية من القرآن الكريم ومن السنة النبوية كان يدعو بها النبي صلي الله عليه وسلم إذا أصبح وإذا أمسي .

13- إفطار بسيط ثم يتجه كل منهم إلي عمله .

ويلحق بنظام الكتيبة أيضًا ما يلي :

(أ‌)شعار هذا النظام هو " كل وأنت شبعان ونم وأنت مستيقظ " ومعني هذا الشعار الطاعة التامة ، و الالتزام الكامل بالنظام المقرر فقد يكون إلزام نفسك بالأكل وأنت شبعان أثقل علي نفسك من إلزامك بالامتناع عن الأكل وأنت جائع وكذلك نومك وأنت مستيقظ أصعب من استيقاظك وأنت نائم .

(ب) ومن شعار هذا النظام الامتناع عن تناول المكيفات من شاي وقهوة فضلا عن الدخان .

(ج) كان يوزع علي كل فرد من أعضاء الكتيبة في أول كل شهر كشف يسمي استمارة المحاسبة ، وهو يضم عشرين سؤالاً يجيب عليها الفرد كل ليلة حين يأوي إلي فراشه " بنعم أو "بلا " كتابة أمام كل سؤال وفي خانة اليوم حيث يضم لكشف ثلاثين خانة لشهر كامل – وفي نهاية الشهر يجمع عدد " لا " وعدد " نعم " فإذا رجحت " نعم " حمد الله وطلب منه التوفيق إلي الزيادة منها وإذا رجحت " لا " أسف وندم واستغفر الله وجدد التوبة وحاول مراقبة نفسه فيها حددته له الاستمارة من مواطن الضعف في نفسه وفي تصرفاته .

(د) كان يوزع علي أفراد الكتيبة رسالة تسمي " المنهج العلمي " وهي تضم أسماء مجموعة مختارة من الكتب في كل فن من فنون العلوم الإسلامية والتاريخية والتربوية ، ويطلب من عضو الكتيبة أن يقرأ ما يستطيع من هذه الكتب لتزوده بذخيرة من المعلومات تنير له الطريق في دعوته ، وتجعله أهلا لقيادة الدعوة في مختلف الأماكن والظروف .

ولا شك في أن نظام الكتائب هذا هو النظام الأمثل للتربية لأنه يجمع كل وسائل التربية الحديثة التي تحدثت عنها الكتب العلمية المتخصصة ، والتي تدرس علي أنها ترف علمي يحلق بدارسه في آفاق الخيال ؛ جمعها هذا النظام وأخرجها إلي حيز الوجود ، وطبقها تطبيقاً دقيقاً رائعًا ، و صقل بها نفوسًا ، وثقف بها عقولاً ، وسما بأرواح أصحابها سموًا ملائكيًا ، مع مزج هذه النفوس معًا بوتقة واحدة هي بوتقة الفكرة الإسلامية مزجًا صاغ منها صفا متراصًا متماسكًا . ومن تمام روعة هذا النظام أنه لم يكن يقتصر تأثيره علي الليلة التي كانت محددة للمبيت ؛ وإنما كان أثره ممتدًا طيلة الأسبوع ، فكشف المحاسبة أو استمارة المحاسبة كان لابد من ملء خاناتها كل ليلة ، والورد القرآني كان يحفظ ويكرر صباح كل يوم والوظيفة كانت تقرأ كل يوم في الصباح وفي المساء .

وإذا علمنا أن ليالي الكتائب لم تكن كلها تقضي بدار المركز العام بل كان الكثير منها يقضي خارجه ، فقد قضينا بعض هذه الليالي في مدرسة خاصة في شبرا – لا أذكر اسمها الآن – وكنا نصل الفجر في مسجد الخازندار القريب من المدرسة . وأذكر بهذه المناسبة أن الناس تعودوا أن يقرأ الإمام في فجر الجمعة آيات من سورة السجدة تبدأ بقوله تعالي : " وقالوا إذا ضللنا في الأرض أ إنا لفي خلق جديد " وكان الأستاذ المرشد قد تعود أن يقرأ بنا الفجر في هذا المسجد وأخذ في قراءة السورة من أولها – وكان يصلي معنا كثيرون من أهل الحي ممن اعتادوا الصلاة في المسجد – تعالت أصولات المأمومين يقولون " وقالوا إذا ضللنا " ظنًا منهم أن الإمام نسي أن اليوم يوم الجمعة فقرأ بسورة أخري . كما قضينا بعض الليالي خارج القاهرة ، وقد قضينا إحدى هذه الليالي في ضاحية بجانب المعادي اسمها " البساتين " وفي صباح تلك الليلة باشرنا أنواعًا من الرياضة منها ركوب الخيل .

وكان من روعة هذا النظام أننا كنا نري قائدنا وإمامنا لا يتميز عنا بشيء في مأكل ولا مشرب ولا ملبس ولا منام بل كان هو أكثرنا تضحية حيث كنا في ذلك الوقت عزابًا وكان هو يترك بينه وزوجته وأولاده ، الأمر الذي زادنا حبًا له وإجلالاً . وأثر هذا النظام وروعته لا يكاد يحس بعمقها في النفوس ، ولا بامتزاجها بالقلب إلا من كابده وعاناه . وحسبك أن تتصور إنسانًا خرج من بيته مهاجرًا إلي مكان ما ، وفي هذا المكان تجرد من مظاهر الدنيا فاتخذ الأرض فراشه ، وحذاءه وسادته ثم في وقت السحر قام من نومه وتوضأ وناجي ربه في سجوده ثم استمع في هدأة الظلام إلي جزء من القرآن يتلوه متجرد مثله ثم أصغي بعد ذلك إلي حديث من قائد متجرد يبثه ما في نفسه ، ويهدي إليه خلاصة تجربته ، ويذكره بفضل ربه ، ويتركه بعد ذلك يستغفر ربه ويتوب إلي خالقه حتى يؤذن الفجر . وبعد صلاة الفجر ، في هذا الجو الروحي ، وضمن هذه الجماعة الواعية المتجردة تزاول رياضة بدنية عادية داخل الدور إن كان المبيت في الدور – أو رياضة قوية كالسباق وركوب الخيل والمصارعة إن كان المبيت في صاحية خارج الدور .

ثم لا يزال عضو الكتيبة في كل يوم من أيام الأسبوع يعد نفسه للإجابة علي أسئلة استمارة المحاسبة التي لابد أن يقف بين يديها كل ليلة قبل أن يأوي إلي فراشه ، وهذه الأسئلة لا تدع كلمة تكلمها ولا حركة تحركها ، ولا عملا صدر منه ، ولا خاطرًا هجس في نفسه إلا حاسبته عليه وطلبت منه الإجابة في شأنه ... ولا يزال كذلك طيلة الأسبوع حتى يحين موعد الليلة التالية للمبيت بالكتيبة . إن هذا الأسلوب قد خرج ملائكة تمشي علي الأرض ، وخرج مجاهدين لا يخافون في الله لومة لائم ، وخرج علماء بهذا الدين علي نور وبينة منه ، ودعاة يهتدي بهم الناس ؛ وهم مع ذلك أساتذة كل في فنه ومهنته . وفي خلال إقامتنا بهذه الدار – دار العتبة – كون الأستاذ المرشد الكتيبتين الأولي والثانية ولم تتم أي من الكتيبتين المناهج المعدة لها لأسباب سنذكرها إن شاء الله في فصل قادم .


الاثنين، 23 أغسطس 2010

الفتنة ... بين الحقيقة والإفتراء

لا يمكن تصور أن تكون أى جماعة من البشر - مهما تجمعت فيها من صفات حسنة - بدون خلافات، فهذا من طبائع البشر
ولا يعيب أي جماعة وجود مثل هذه الخلافات مهما زادت حتى لو وصلت إلى درجة الإنشقاق والإنفصال مادامت المجموعة الرئيسية لا تنشغل عن هدفها الرئيسي بمثل هذه الأحداث
ولنا المثل الواضح فى غزوة أحد عندما انشق عبد الله بن أبي بن سلول عن جيش المسلمين بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجع بثلث الجيش!!
ولقد أبدع السيناريست فعلا عندما تحدث فى الحلقة الثالثة عشرة عن الفتنة الأولى فى تاريخ الأخوان!! أبدع فى خلط الأوراق وقلب الحقائق وإختلاق الأحداث التى لم تحدث وذكر نصف الحقيقة على طريقة "لا تقربوا الصلاة"
فصور الأمر على أنه ثورة عدد كبير من الأعضاء على تدليس ومراوغة وسرقات حسن البنا!! وعلى سيطرته على الجمعية العمومية (!!) وعلى مجلس الإدارة "الإمعات"(!!) فى جو من الصياح والحدة، ثم ذكر أنهم سيقدمون شكوى للنيابة ثم قفز إلى النقل إلى القاهرة على أنه هروب من الإسماعيلية "لأنه أصبح غير مرغوب فيه" !!!! وأنهى الموضوع باختلاق أول حادثة عنف فى تاريخ الجماعة حيث حشد حسن البنا مجموعة من الإخوان للإعتداء على الوفد الذي جاء من الإسماعيلية لمواجهته أمام مدرسته بالقاهرة!!!
وقبل أن أنقل لكم النص الكامل لتفاصيل الذي حدث، أقدم لكم الملخص الذي يمكن لأي طفل يستطيع القراءة - عندما يقرأ أصل هذا الموضوع - أن يجد الحقائق التالية:
- الذي قام بهذا الاعتراض على تعيين الشيخ على الجداوي لم يكن من مؤسسي الجماعة ولكنه كان أحد الذين تم تعيينهم فى معهد حراء
- مجموع من قاموا بهذه الفتنة أربعة أشخاص وقد جمعهم حسن البنا فى بيته لمناقشتهم في ماذا يريدون ونفذ كل ما طلبوا (إعادة عرض الموضوع على الجمعية العمومية وإجراء انتخاب جديد لنائب المرشد)
- أجريت الانتخابات وكانت الأصوات الرافضة أربعة أصوات!!! فى مقابل أكثر من خمسمائة صوت أيدت القرار السابق لمجلس الإدارة
- بعد ذلك بدأت الفتنة الثانية عن ديون الجماعة ووضعها المالي وعالجها حسن البنا بأن جمع الدائنين وكتب على نفسه كمبيالات شخصية لهم ودعا الأخوان جميعا - ومنهم طبعا الأخوة الأربعة أصحاب الفتنة - وأعلمهم بهذا القرار
- قام أمين الصندوق (وهو أحد الأخوة الأربعة) بالاعتذار عن مهمته وسلم الخزينة الخاوية لإخوانه وهو يقول "خربانة بإذن الله" وكان رد فعل الإخوان أن قاموا بمساعدة أهل الخير بتسديد جميع الديون بل وعمرت الخزانه بفضل الله
- قام أحد الأخوة الأربعة (أمين الصندوق السابق) بتقديم بلاغ للنيابة، وأدعوكم لقراءة الحوار الرائع بين وكيل النيابة ومقدم البلاغ والذي انتهى بأن نصحه وكيل النيابة: يا فلان أنت شاب يظهر أنك مخلص ولكنك مخطئ خطأ كبيرا ونصيحتي لك أن تعود إلى جماعتك وتعمل معهم إن شئت وتدع هذه الأفكار، وإذا لم يعجبك حالهم فاقعد في بيتك وانصرف لعملك ودع الناس يعملون وهذا أفضل لك إن أردت النصيحة.
- سلك هؤلاء الأربعة بعد ذلك مسلك العرائض المجهولة التى تحذر من الأعمال السرية (!!) التى يقوم بها الإخوان، ثم تطور الأمر إلى النشرات التي تشكك فى الأموال وإنفاقها (!!) وغياب الشورى داخل الجماعة (!!) وطبعوها ووزعوها على معظم الأماكن التى يوجد بها شعب الإخوان، ورد الأخوان بإصدار "كلمة الحق" وكانت النتيجة سؤال الناس عن الإخوان وزادت نسبة إنضمام الناس للإخوان؟؟!!! (هل تُذكرك هذه الحكاية بشئ ؟؟!!)
- رغم كل ذلك ورغم معارضة الإخوان ذهب حسن البنا إلى كبيرهم فى منزله منفردا ليعرض عليه العودة والمسامحة !! وإصلاح ذات البين، ولم يلق استجابة
- الوفود التى جاءت لمدرسة عباس الأول بالقاهرة كانت لطلب عودة حسن البنا إلى الإسماعيلية وذهبت أيضا إلى وزير المعارف لإلغاء النقل
- ولا توجد على الإطلاق
واقعة الضرب التى أقحمها السيناريست أمام المدرسة فى القاهرة !! فكيف سيكون الاعتداء على وفد ضخم جاء أصلا للمطالبة بعودة حسن البنا للإسماعيلية؟؟!!
-
حادثة الضرب الوحيدة الموجودة بالمذكرات كانت فى الإسماعيلية فى غير وجود حسن البنا عندما قرأ بعض الشباب المتحمس بعض الشتائم والسباب الذي كتبه أحد الأخوة الأربعه فأوسعوه ضربا لتأديبه (وهذا خطأ بالطبع من هؤلاء الشباب).
- ويوجد فى النص العديد من التفاصيل التى توضح الحقيقة كاملة وتوضح مدى خطورة الجريمة التي يرتكبها هذا السيناريست فى حق التاريخ

وإلى نص المذكرات:

الجاه والمال
وهما دائماً أساس الخصومة وأصل النزاع ومادة الشر في هذا الوجود. ولقد ظل الإخوان بالإسماعيلية أنموذجا نقيا صافيا من الحب والامتزاج الروحي والصفاء الذي لا يكدره مكدر، يتنافسون في البذل والعمل والتضحية واحتمال المشاق في سبيل الدعوة ويسخرون بما يصادفهم في سبيلها من عقبات “يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة” حتى إذا فتحت هذه المدارس وأقيمت المنشآت وعين فيها موظفون من حملة الشهادات العالية والمؤهلات الثقافية الرسمية، لم يكن لهم من التهذيب الروحي والتربية على مناهج الدعوات وأصحابها حظ موفور وأصبح هناك عنصر غريب عن المجتمع الإخواني الممتزج المتحد الغايات والوسائل والأهداف وأصبح هؤلاء الموظفون الغرباء بأرواحهم وتفكيرهم عن هذا المحيط يتطلعون إلى مناصب الدعوة وإلى ما يظنونه مال الدعوة. ولم تكن هذه الدعوة ذات يوم صاحبة مال إذ إن مطالبها دائماً رهن على مواردها فخزينتها خاوية دائماً وإن كانت مشروعاتها ناجحة دائمة - بإذن الله - ببركة جيوب الإخوان التي تعتبر خزائن معمورة للدعوة تتحكم فيها كيف تشاء ومتى تشاء. فحلى لهؤلاء الغرباء أن يمشوا بين الإخوان بالنميمة وأن يحيكوا المؤامرات التي يستطيعون بها في زعمهم أن يصلوا إلى المناصب الرئيسية في تكوين الجماعة لا في منشآتها فقط، وأن يستولوا بذلك على مواردها وتولى كبر ذلك ورأس الدعوة إليه ورسم المناهج لتحقيقه” شيخ أريب أديب عالم فقيه لبق ذلق اللسان واضح البيان عين مدرساً بمعهد حراء” وقدرت فيه مواهبه فأسندت إليه رئاسة لجنة الحفلات وبعض الدروس في مسجد الإخوان. وكان محترماً من الجميع فتطلع إلى أن يكون رئيساً للجماعة بالإسماعيلية وبخاصة وهو يعلم أنه لا بد من أنني سأنقل يوماً من الأيام كموظف من هذا البلد الذي قضيت فيه نحو أربع سنوات إلى بلد آخر، ونسي هو أنه موظف كذلك وأنه عرضة للنقل أو الفصل أكثر مني. ولم يسلك إلى تحقيق هذه الرغبة طريقها الطبيعي وهو الإخلاص في العمل والتفاني في خدمة الدعوة، ولكنه سلك إليها الطريق الملتوية: طريق الدس والتفريق والوقيعة، فصادق بعض أعضاء مجلس الإدارة الذين يعتقد أن لهم نفوذاً بين الإخوان ومنزلة فيهم وأخذ يوثق رابطته بهم ويكثر من زيارتهم ويدعوهم إلى زيارته. ونحن جميعاً لا نرى في هذا إلا عملاً بريئًا لا غبار عليه وعلى دعوة الإخوان، وهل دعوة الإخوان إلا توثيق الروابط بين الإخوان؟!

نائب الإخوان
وكان الإخوان يخشون انتقالي من الإسماعيلية قبل أن أقيم لهم من بينهم من ينهض بأعباء الدعوة، فعرضوا علي التفكير جدياً في هذا الأمر حتى لا نفاجأ بالإنتقال، ونؤخذ على غرة، ورأيت الفكرة وجيهة، فشغلتني حيناً، وأخيراً رشحت لهذه المهمة أحدهم، وهو الأخ الشيخ علي الجداوي، وهو من أفضل الإخوان خلقاً وديناً، وعلى قدر مناسب من العلم والمعرفة، حسن التلاوة لكتاب الله، جيد المشاركة في البحث، دائم الدرس والقراءة، مع أنه من أسبق الناس استجابة للدعوة، ومن أقربهم إلى قلوب الإخوان، وأحبهم إليهم، ودعوت إلى اجتماع شامل، وعرضت على الإخوان فكرة إخوانهم من ترشيح نائب للإخوان يقوم بالعبء بإشرافي قبل أن نفاجأ بنقل، أو نحوه، فرحبوا بها جميعاً، وعرضت عليهم ترشيحي، فوافقوا عليه بالإجماع في فرح شامل، وسرور عجيب بهذا الاختيار، وتحمس بعضهم، فاقترح أن يترك الشيخ علي عمله - وقد كان يشتغل نجارا في دكان خاص به - ويعين إماماً لمسجد الإخوان، وتصرف له مكافأة تكفيه من مال الدعوة، حتى يستطيع أن يؤدي عمله على أكمل وجه، ووافق المجتمعون على هذا العرض، واستحسنته، لأني أؤمن بفائدة التفرغ للعمل، وعين للشيخ علي مكافأة ضئيلة، ورضي الرجل إذ كان معنا على التضحية لا على الغنيمة، وهي شيمة إخوان الإسماعيلية جميعا بحمد الله، وكان ينغص هذا السرور شعور واحد هو أنه إيذان بافتراقنا، ودليل على الإحساس بقرب هذا الإفتراق.

المؤامرة الأولى
ورأي الشيخ بعينيه أنه قد حيل بينه وبين ما يأمل من رياسة الإخوان بهذا الوضع، فها هو ذا نائب المرشد قد عين واختير فعلاً، فهل يسكت على ذلك، وهو يرى نفسه أكفأ وأعلم وأقدر وأكثر أهلية لهذا المنصب من هذا” النجار”؟ وأين الشيخ على الجداوي في علمه وموهبته من فضيلته، وهو يحمل شهادة العالمية من جهة، ويحسن قرض الشعر، ويجيد الخطابة والقول، ويعرف كيف ينشر الدعوة، ويتصل بالناس، وإذن فلا بد من عمل: وعمل محكم مرسوم فهو لبق حكيم، استعان بأصدقائه الذين أحكم صلته بهم من قبل، وأفرد أحدهم بأخلص صداقته، وأخذ يفتله في الذروة والغارب، ويوسوس له بالليل والنهار، ويقنعه بأنه أكفأ من أخيه، وأليق بهذا المنصب منه، وأن الأستاذ قد ظلمه حقه وغمطه تضحياته، فهو قد احتمل كثيراً، وأنفق كثيراً، وجاهد كثيراً، وأخلص للأستاذ أعظم الإخلاص، ووضع ماله وحياته ومستقبله وأهله فداءً له وللدعوة، وماذا فعل الشيخ من هذا كله؟ لا لشيء أبداً، فهو لم ينفق، ولم يجاهد، ولم يخلص مثل هذا الإخلاص، فكيف يتخلى الأستاذ أخلص الناس له وللدعوة ليرشح من هو أقل منه إخلاصاً، وأضأل منه شأناً، هذا ظلم مبين. ذلك فضلاً عن أن اجتماع الجمعية العمومية لم يكن قانونياً، فقد جاء مفاجئاً ولم تصل الدعوة لكثير من الأعضاء الذين إن حضروا كان يحتمل أن يكون لهم رأي آخر، وهذا غمط لحق هؤلاء في التصويت وفي إبداء الرأي.
وكيف يتقاضى الشيخ مكافأة على إمامة المسجد قدرها ثلاثة جنيهات، والجمعية مدينة، وقد بقي عليها من نفقات المسجد والمدرسة والمنشآت أكثر من ثلاثمائة وخمسين جنيهاً، مع أن فضيلة الشيخ مستعد لأن يقوم هو بهذه الإمامة متطوعاً على عمله بالمعهد، أو بمكافأة يسيرة لا تتجاوز خمسين قرشاً في الشهر وهكذا بمثل هذا القول المعسول الذي ظاهره فيه الرحمة، وباطنه من قبله العذاب، والذي لا يقصد من ورائه إلا فتح ثغرة في القرار السابق تكون سبيلا لنقضه، وما يريد الشيخ أن تسند إلا إليه، وما هذا الأخ الطيب القلب إلا مطية لأغراضه وغاياته وأصغى الأخ إلى وسوسة الشيخ، وامتلأت بها نفسه وإن لإبليس لأصدقاء ومعاونين لعلهم أنفذ منه قولاً، وأشد حولاً، وأبعد طولاً، وأقرب إلى النفوس. نعوذ بالله من كل وسواس خناس من الجنة والناس، وأفضى بهذا القول إلى بعض أصدقائه من الإخوان، فمنهم من نصح له، ومنهم من أشفق عليه وتأثر بقوله. وفشا في الإخوان هذا القول، وشعرت به، فعلمت من أين هبت الريح، وأحضرت هذا الأخ، ونصحت له، ولكنه كان قد امتلأ إلى نهاية تفكيره، واستغرقته فكرة أولويته، وزين له الشيطان أن في ذلك مصلحة الدعوة، وأنه يتشدد لا لنفسه ولكن للمصلحة العامة، وهذا هو المنفذ الذي ينفذ منه الشيطان دائماً إلى نفوس المؤمنين ليفسد عليهم صدق إيمانهم وطهر قلوبهم، وتشيع لهذا الأخ ثلاثة من أصدقائه كان العامل الأول في تشيعهم له صداقته لهم، ثم انضم إلى ذلك وسوسة الشيخ لهم ونفورهم الطبيعي من الشيخ علي، وحسدهم إياه على ما وصل إليه، وشعار ذلك كله مصلحة الدعوة والحرص عليها.
فأردت أن أقضي على لا الفتنة من أساسها، ولا أدع لهم عذرا، إذ كنت حريصاً عليهم حسن الظن بهم، مقدراً لسابقتهم في الدعوة، وخدمتهم إياها، وتضحيتهم في سبيلها، معتقدا أن الحصول على أمثال هؤلاء الجنود الذين نهلوا من مناهل الدعوة، وشبوا في أحضانها عسير عزيز يتطلب مجهوداً آخر، وكفاحاً آخر، وتربية تستنفذ وقتاً، وتتطلب عناءً. وبعد ذلك كله فهناك الوفاء للاخوة والحب للإخوان والعطف عليهم وما أجلى هذه المعاني وأوضحها في وصف الله تبارك وتعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام” عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم”.
ومن واجب أصحاب الدعوات أن يتحروا هذه الأخلاق النبوية، وأن يكون لهم. في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فيعز عليهم ما يصيب المؤمنين من عنت، ويحرصون على أخوتهم، وسلامة نفوسهم أشد الحرص، ويكونون بهم ذوي رأفة ورحمة. لهذه الحيثيات جميعاً لم أرد أن أؤاخذهم بقسوة، أو أعاجلهم بعقوبة، أو أباعد بينهم وبين إخوانهم بإقصاء، أو فصل، ولكني آثرت التي هي أفضل وأجمل، فجمعتهم عندي، وسألتهم ماذا تريدون؟ فقالوا: نريد ألا تسند مهمة النيابة عنك إلى هذا الأخ، فقلت.: جميل أنتم تريدون هذا، ولكن إخوانكم قد أرادوا غيره، واختاروه، وأسندوا إليه هذه المهمة، فإذا نفذت إرادتكم خالفت إرادة إخوانكم، فقالوا: لا، إنهم لم يكونوا جميعاً حاضرين، ولو حضروا جميعاً لكان لهم رأي آخر، وكانت الدعوة مفاجئة، ولم يكن المقصود منها معلوماً، فقلت: وهل إذا جددنا الدعوة للجميع، وأعلنا الغرض منها، وتركنا لكل إنسان الحرية الكاملة في أن يقول رأيه تنزلون عند رأي الجماعة؟ قالوا: نعم. قلت: جميل لم نخسر شيئا؟ إذن فلنعاهد الله على هذا، وعاهدنا الله، واتفقنا على الموعد، ووجهنا الدعوة موضحاً بها الغرض من الاجتماع، والواقع أن هذا المظهر كان جديداً وغريباً على أوضاع الإخوان التي لم تعرف إلا الوحدة الكاملة، والاندماج التام، فرأي أحدهم هو رأي جميعهم، يتمثل فيهم قول نبيهم عليه الصلاة والسلام: “ ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد”. وقوله عليه الصلاة والسلام: “ المسلمون عدول بعضهم على بعض يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم”. ولكن أخذت به إيثاراً للحسنى وسداً للذريعة، واجتمعنا وكنت أعلم من نفوسهم فوق ما أعلنوا، فأوعزت إلى الأخ الشيخ علي أنه إذا ظهرت نتيجة الانتخابات في جانبه أن يعلن تنازله عن مرتبه، وأنه سيعمل في المسجد متطوعاً. وقد كان: اجتمع الإخوان، وظهرت نتيجة الانتخابات، فإذا هي إجماع رائع عدا أصوات هؤلاء فقط على اختيار أخيهم الشيخ علي، وإذا به يفاجئهم بهذا الإعلان في تأثر عميق نال من نفوسهم جميعاً، وأخذوا يستغربون لموقفه هذا، وموقف هذا العدد منه، أربعة يأبون إلا أن يفرضوا أنفسهم على أكثر من خمسمائة، فإذا لم ينفذ رأيهم كان الخمسمائة مخطئين، لأن الأربعة يأبون إلا أن يكونوا في نظر أنفسهم مصيبين، وهذا من أغرب الأوضاع في الجماعات، ولقد كان الإسلام حكيماً أعظم الحكمة في وصيته بأخذ مثل هؤلاء الخوارج على رأي الجماعة بمنتهى الحزم” من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يشق عصاكم فاضربوه بالسيف كائناً من كان”. ولكنا تأثرنا إلى حد كبير بالنظم المائعة التي يسترونها بألفاظ الديمقراطية والحرية الشخصية، وما كانت الديمقراطية، ولا الحرية يوما من الأيام معناهما تفكيك الوحدة والعبث بحرية الآخرين.
كان موقف الإخوان رائعاً فقد تكاثروا علي بعد هذه الجلسة يقدمون إلي من أموالهم ما يصح أن يكون رأس مال لأخيهم الذي ترك عمله وأبى إلا أن يعمل متطوعاً، ولكني طمأنتهم عليه وأخبرتهم بأننا لن ندع الأمر، بل سنترك له دكاناً من دكاكين المسجد يفتحه ليتاجر أو يصنع ويكون في الوقت نفسه بجوار المسجد والدار ودعوت لهم بخير وحسبت أن الأمر سيقف عند هذا الحد.

المؤامرة الثانية
ولكن النفوس إذا تمكن منها الهوى في ناحية فإنه يعميها عن الخير ويصم أذنها عن الحق وكذلك كان، فما انتهينا من هذا الموقف حتى اجتمع هؤلاء الإخوان إلى شيخهم وأخذوا يتدارسون ما حدث ولم يكن في جانبهم طبعاً فهداهم التفكير إلى أن يذيعوا عن الدعوة والجماعة السوء في ثوب النصيحة والإشفاق، فانطلقوا يشيعون أن ترك الأستاذ للعمل في هذا الوقت بين يدي أحد الإخوان كائناً من كان فيه خطورة على الدعوة، فإن الجماعة مدينة للتجار بثلاثمائة وخمسين جنيهاً من بقية نفقات بناء المسجد والدار وإذا شعر التجار والناس بهذا فإنهم سيطالبون بديونهم ويتوقف الكثير منهم عن مساعدتهم وتلوك الألسنة سمعتنا بالباطل وخصوصاً وليس في الجمعية شيء، وهل يستطيع النائب الجديد أن ينهض بكل هذه الأعباء وخصوصاً إذا انتقل الأستاذ وترك الجماعة مثقلة بهذا العبء؟! أليس من الخير أن نختار لهذه النيابة رجل من الأقوياء الأغنياء ليرد عن الدعوة هذا الشر؟!، وسمعت هذا النبأ وفشا في الإخوان وفي الناس وتحدثوا به في مجالسهم وحملت هذا القول من قائليه على وجه الإشفاق والنصيحة أخذا بحسن الظن وإيثارا للجميل وبعدا عن التورط في الاتهام بالباطل.
وأردت أن أعالج الأمر على طريقتي فدعوت أصحاب الدين وكانوا ثلاثة أو أربعة من التجار وعرضت عليهم أن توحد هذه الديون باسم واحد منهم فقبلوا. فعرضت على هذا الواحد أن يقبل مني تقسيط دينه على فترة طويلة بحيث أدفع له كل شهر ثمانية جنيهات فقبل. وكتبت له كمبيالات شخصية على نفسي بكل مبلغه على هذه الطريقة وأخذت منه مخالصة بأنه ليس له عند الجمعية شيء أبداً وضممتها إلى مخالصات غيره من التجار بحيث لم تبق الجماعة مدينة لأحد بمليم. ودعوت الإخوان جميعاً ومنهم هؤلاء الأربعة المخالفون وعرضت عليهم الأمر فسقط في أيديهم وأرادوا أن يتعللوا بالمعاذير وقالوا ولم تحمل نفسك هذا العناء؟
وهل من المروءة أن ندعك تتحمله؟ وهل هذا جزاؤك على عمل الخير؟. ولنفرض أنه عرض لك ما يمنع السداد فيكف يكون الحال؟ فقلت: أما نفسي فدعوها وشأنها وأما العجز عن السداد فقد وضعت الأقساط على طريقة تمكنني من انسداد إن شاء الله وقد قبل التاجر وجزاه الله خيراً، وما أنا في هذا كله إلا واحد من المسلمين عليه أن يبذل في سبيل دينه وأمته فلا تحملوا همي ولكن حسبنا ألا يقال إننا عاجزون عن السداد أو أن فينا فتنة، وحسبنا أن تظل هذه الوحدة التي توثقت بروح الله على الحق والإيمان. فلم يسعهم أن يفعلوا شيئاً أو يقولوا شيئاً وكل الذي استطاعوا عمله أن أحدهم وقد كان أمينا للخزينة رغب أن يسلم الخزينة لغيره فقبلنا منه وأسندنا الأمر لسواه. ولا أزال أذكره وقد أخرج الدرج وقلبه ظهرا لبطن وبطناً لظهر وسلمه لأخيه مع المفتاح وهو يقول له تفضل “خربانة بإذن الله” فقلت له في تأثر عميق: لا يا أخي لكن” عمرانه بفضل الله” وانصرفوا، ولقد عمرت خزينة الإخوان بعد ذلك ما شاء الله لها أن تعمر وامتلأت بالخير فعلاً من فضل الله وجزى الله كرام الإسماعيلية خيراً، فإنهم ما كادوا يسمعون نبأ هذا الذي حدث ويصل إليهم أنني كتبت على نفسي خمساً وأربعين كمبيالة حتى وجه إليهم الوجيه المحترم الشيخ محمد حسين الزملوط رحمه الهي الدعوة للاجتماع في منزله فاجتمعوا وتقاسموا المبلغ فيما بينهم.
وتبرعوا بأكثر من أربعمائة جنيه سددت منها هذه الكمبيالات جميعاً، وما بقي ضم إلى خزينة الجماعة وتوالت التبرعات من الإخوان فكانت رصيدا لا بأس به “ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يعلمون”.

بلاغ للنيابة
ومن الطريف أن هؤلاء الإخوان الذين أبوا إلا التمرد، خرجوا من الجلسة التي رأوا فيها كيف يتسابق إخوانهم في البذل ويفتدون الدعوة بالمال والنفس إذا طلبت منهم النفوس، وبدلاً من أن يتأثروا بهذه المظاهر الطيبة لجوا في خصومتهم ولم تزدهم هذه النماذج إلا غيظاً وحقداً، ويظهر أن النفس الإنسانية إذا ألح عليها معنى الانتصار ولو بغير الحق لم تعد تفكر فيما عداه، وإن ساقتها وسائلها الملتوية إلى الهزيمة المتكررة حتى تصل بها إلى الهزيمة التامة، ولله في خلقه شئون. ولم يكن أمامهم بعد ذلك من حيلة إلا أن يتقدم هذا الأخ إلى النيابة ببلاغ بتوقيعه، وتلك فضيلة لا أنساها له، إنه لم يشأ في يوم من الأيام أن يحارب إلا واضحاً ظاهراً، وهو أثر من آثار شجاعته الأدبية، وأثر الدعوة فيه وإن كان مخطئاً. يقول في هذا البلاغ: إن حسن أفندي البنا رئيس الإخوان المسلمين والمدرس بالمدرسة الابتدائية بالإسماعيلية يبعثر في أموال الجماعة ويبعث بها إلى القاهرة لأخيه هناك الذي يقول إنه رئيس شعبة القاهرة وإلى بور سعيد وإلى أبو صوير مع أن هذه الأموال مجموعة من الإسماعيلية، وهو من أبناء الإسماعيلية، وكان من الواجب أن تصرف في الإسماعيلية، وبما أن هذا هو حق النيابة العمومية في حماية أموال الناس وأعراضهم ودمائهم فإنه يطلب أن تتدخل النيابة وتمنع إنفاق هذه الأموال على هذا الوجه. وكان وكيل النيابة رجلاً لبقاً دقيقاً وهو فيما أذكر الأستاذ محمود مجاهد ولعله في القضاء الآن، فاستدعاه وأخذ يناقشه نقاشاً هادئاً طريفاً وقال له: هل أنت عضو في مجلس إدارة هذه الجمعية؟ فقال كنت عضواً وكنت أقوم بأعمال الخزينة فاستعفيت وقبلت استقالتي، فقال له: هل يقر مجلس الإدارة إرسال هذه النقود إلى هذه الشعب؟ فقال نعم؟ فقال له: فهل أنت عضو في الجمعية العمومية فقال إنني كنت عضوا في كل شيء ولكن الآن لا أحب أن أعرف هؤلاء الناس ولا أعتبر نفسي عضواً في أي عمل لهم، فقال له: هل تظن أن الجمعية العمومية إذا عرض عليها هذا التصرف تقره وتوافق حسن أفندي عليه؟ فقال: يا سلام، لو قال لهم إنني أخذت هذه الفلوس لنفسي لوافقوه على ذلك مسرورين لأنه سحرهم وهم يوافقونه على كل ما يعمل بدون تفكير. فقال له الرجل وإذا كان مجلس الإدارة يوافقه والجمعية العمومية توافقه وأنت لست عضواً لا في هذا ولا في ذاك فما شأنك أنت؟ وما شأن النيابة في هذا الموضوع؟ هؤلاء أناس اجتمعوا ودفعوا نقوداً ووكلوا فرداً أو أفراداً في إنفاقها ووافقوه على طريقة الإنفاق، فبأي وجه تتدخل النيابة وهم أحرار يفعلون في أموالهم ما يريدون. يا فلان أنت شاب يظهر أنك مخلص ولكنك مخطئ خطأ كبيرا ونصيحتي لك أن تعود إلى جماعتك وتعمل معهم إن شئت وتدع هذه الأفكار، وإذا لم يعجبك حالهم فاقعد في بيتك وانصرف لعملك ودع الناس يعملون وهذا أفضل لك إن أردت النصيحة. فانصرف.
وعلم الشيخ عسكريه رحمه الله بالأمر فحضر من شبراخيت وحاول التوسط ليرد هؤلاء الذين ركبوا رؤوسهم إلى صف الجماعة ولكنهم أبوا إلا العناد وكان الشيخ رحمه الله نافذ البصيرة في مثل هذه الأمور فعاد يقول لي: هؤلاء لا خير فيهم فقد فقدوا إدراكهم لسمو الدعوة، وفقدوا إيمانهم لطاعة القيادة ومن فقد هذين فلا خير فيه في صفنا، فاحتسبهم وامض في طريقك والله المستعان. وجاهرهم برأيه وعاد إلى شبراخيت وفكرت في أن أدعو مجلس الإدارة لتقرير فصلهم من الجماعة ولكنهم بادروا فأرسلوا باستقالتهم وقبلها المجلس وقضي الأمر وعلى نفسها جنت براقش.
وعز عليهم أن يروا أنفسهم بعيداً فلا يستطيعون كيداً. فأخذوا يطلقون الإشاعات ويرسلون بالعرائض المجهولة إلى الجهات المختصة من وزارة المعارف إلى البوليس إلى النيابة، ثم عمدوا إلى الذين يظنون أنهم دعائم في هذه الدعوة من أهل البلد يلقون إليهم بالأكاذيب ليصرفوهم عن الجماعة وقصدوا أول ما قصدوا إلى الشيخ محمد حسين الزملوط وألقوا إليه بفرية فقالوا: إن الإخوان قوم خطرون وعندهم من الأعمال السرية ما لو كشفته لفررت منهم ونجوت بنفسك ونحن سنبلغ عنهم الجهات المختصة ولكنا أردنا قبل ذلك أن نبلغك لتأخذ الحيطة لنفسك أولا وتستقيل منهم وتعلن استقالتك وبعدك عنهم، ومتى اطمأننا على ذلك بلغنا فلا يصيبك شيء فقال لهم: وهل أنتم واثقون مما تقولون؟ فقالوا نعم كل الثقة وقد اشتركنا فعلاً في هذه النواحي السرية، فقال الرجل وكان حصيفا عاقلاً فيه إيمان ودين وفيه صراحة وقوة أنتم الآن عندي أحد رجلين إما خائنون إذا كان الكلام صحيحاً،وإما كاذبون إذا كان باطلاً، فكيف تريدون مني أن أصدقكم وأحترمكم وأنتم خونة أو كذابون قوموا من عندي ولا أراكم بعد ذلك. ولست أنسى تلك اللحظة التي جاءني فيها متغير الوجه عليه آثار الغضب والتأثر واستأذن من ناظر المدرسة وأخذني من الفصل وخرجنا نسير بظاهر البلد وحدنا ثم كاشفني بما سمع وقال: يا فلان عد إلى البلد الآن سريعاً ورتب نفسك إذا كان ما يقوله هؤلاء الناس صحيحاً واجتهد ألا يظهر شيء من أعمالكم هذه إذا كانت لكم أعمال وإذا ظهر شيء أو سئلت في شيء فقل إنني لا صلة لي بهذه الجماعة أبداً ورئيسها هو محمد حسين، فأنت شاب لك مستقبل وأنت موظف تستطيع الحكومة أن تضايقك وأنت ضيف عندنا وقمت بهذه الدعوة لوجه الله فلا تستحق إلا كل جميل. لقد تأثرت أشد التأثر بشهامة هذا المؤمن رحمه الله، وقلت له يا سيدي اطمئن كل الإطمئنان فنحن نعمل في وضح النهار ولو كان هؤلاء الجماعة صادقين فيما يقولون لأبلغوا من زمن مضى فالخلاف بينهم وبين الجماعة ليس جديداً. وكل ما في الأمر أنهم رأوك تساعد الجماعة بجاهك ومالك وأنت رجل خير طيب محترم فأرادوا أن يحرموا الجماعة صلتك بها ويظهروها للناس بهذا المظهر المخيف وإنى لشاكر لك أعظم الشكر هذا الاستعداد الكريم وجزاك الله عن الإيمان والوفاء خيراً.
ولست أنسى كذلك قول الرجل بعد ذلك: والله يا أخي لقد سمعت عمي الشيخ عيد يقول كثيراً إنني أسأل الله ألا أموت حتى أرى عزة الإسلام وانتصار أممه وعلو أحكامه وها هو قد مات ولم ير عزة الإسلام وأنا لا أمنية لي في الحياة إلا أن أرى عزة الإسلام وأسأل الله ألا أموت حتى أرى هذه العزة، ولكنني أشعر بأن ذلك بعيد لأن قطرة الدم لا زالت غالية على المسلمين، وما دامت قطرة الدم غالية فإنهم لن يصلوا إلى شيء لأن ثمن العزة والحرية قطرة الدم فقط. القرآن يقول هذا وسيرة النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه كلها تدل على ذلك أليس كذلك؟ فقلت له: بلى.. إن ذلك حق ولا شك ولكن أطمئنك فإن الإيمان الصحيح يرخص الدماء او يغليها في الواقع لأن جزاءها عند الله العظيم، وقد أخذ الإيمان يتمكن من قلوب طائفة من عباد الله سيكون على يدها الخير والإنقاذ إن شاء الله، وسترى من هؤلاء الإخوان الناشئين كل خير والله يطيل أجلك حتى ترى عزة الإسلام فقال: ولكنهم قليل قليل جداً فقلت سيكثرون والخير في هذا القليل و” كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين” فقال بشرك الله بالخير نرجو ونسأل الله.
ولقد حدثني بعد ذلك أن وكيل النيابة سأله في عرائض قدمت له بهذا الخصوص فنصح له بإهمال كل هذه العرائض المجهولة التي لو كانت حقاً لما أخفي أصحابها أسماءهم ولواجهوا الحقيقة بأنفسهم. رحم الله الشيخ محمد حسين زملوط وجزاه خيراً.

نشرات وتقارير
لم يجد هؤلاء الأربعة أو الخمسة من سبيل بعد ذلك للكيد للجماعة إلا أن يلجئوا إلى طبع نشرات مكذوبة، وتقارير مغرضة يقولون فيها: إن حرية الرأي مفقودة في هذه الجماعة، وأنها تسير على غير نظام الشورى. والغريب أنهم ينقضون هذه الدعوى بأن يذكروا أن مظهر ذلك أن مجلس الإدارة وأن الجمعية العمومية لا تخالف للأستاذ أمراً وتطيعه طاعة عمياء، فإذا كانت الجمعية العمومية تستشار ومجلس الإدارة يستشار باعترافهم فأين فقدان الشورى؟ ومتى كان معنى الشورى وحرية الرأي المخالفة والخروج ولا بد؟ ثم يقولون بعد ذلك: إن نقود الإسماعيلية تنفق على القاهرة يرسلها الأستاذ لأخيه وعلى أبو صوير وعلى بور سعيد وكأنه حرام على أصحاب الدعوات أن يستعينوا بأحد ممن يتصل بهم مهما كان أيمانه وكفايته، وعليهم ليبرءوا من التهمة أن يقصوا هؤلاء ويقذفوا بهم من حالق مهما كان وجودهم مفيداً نافعاً لأنهم أقارب أو أخوة حتى ولو جنت عليهم هذه الصلة فأخرتهم وقدمت الناس. ويقولون إن حساب المسجد لم يعلن على الجمهور بعد ولم نعرف موارده كم بلغت ولا كيف صرفت، وأن أدوات المدرسة اشتريت بغير مناقصة وبغير طريقة قانونية، وأن من حق الرأي العام أن يحاسب القائمين على هذه الجماعة بما يفعلون. وعلمت نبأ هذا التقرير فذهبت إلى كبير الجماعة بمنزله وكان رجلاً عاقلاً أحترمه لسنه وسابقته وقلت له: بلغني أنكم اعتزمتم كذا وكذا فهل هذا صحيح؟ فحاول أن يتخلص من الإجابة ولكني أخرجت له بعض نصوص التقرير فلم ير بداً من الاعتراف فقال: نعم وهو في المطبعة الآن فقلت له حسن، لكم ما تريدون يا عم فلان أفندي ولم أجىء إليك الآن لأرجوك أن تحجز هذا التقرير أو تكف عن حملتك على الجماعة فلك رأيك وأنت وما تريد، ولكني أعلم ولا زلت أعتقد أنك رجل عاقل والأمور بنتائجها وعواقبها. ومجرد التهور واتباع شهوة الإنتقام لا يجدي شيئا فما الذي تنتظرونه من وراء تقريركم هذا؟ فقال: ننور الرأي العام وندله على الحقيقة، فقلت له لن أحاول مناقشتك في هذه الحقيقة التي تظنها والتي أعتقد أنها باطلة ولكن أقول لك هل تظن أننا عاجزون عن الرد وعن إقناع الرأي العام بأننا صادقون وأنتم غير صادقين، وليس معكم أنتم إلا مجرد الإدعاء ومعنا نحن الوثائق والمستندات وأنت يا عم فلان أعرف الناس بذلك، فحساب المسجد على يدك وشراء أدوات المدرسة باشتراكك وبرأيك وكثير من المشتريات كان عن طريقك للمسجد ولغير المسجد. وإذن فتنوير الرأي العام سيكون في جانبنا لا في جانبكم ونحن نملك من وسائله ما لا تملكون، فنحن أقوى صلة بالشعب ونستطيع أن نخطب ونكتب ونتحدث وندعو إلى اجتماعات ونقول في الدروس ونوضح في المساجد والقهاوي والشوارع، والألسنة كثيرة والحق أبلج. إن الذي يؤلمني في الأمر شيء واحد فقط هو أنني بالأمس القريب كنت أقدمك للناس كا يقدم الإبن والده في احترام وتوقير وكنت أقدم هؤلاء الأبناء كخلاصات من الشباب المؤمن. وموقفكم سيضطرني مكرهاً إلى الطعن والنقيصة ورميكم بالأكاذيب والبهتان والخيانة والمروق والخروج على الحق وعلى الدعوة.. إلخ من هذه الألفاظ والتهم التي لا يعجز عنها أحد. تصور أن هذا المظهر وحده يحز في نفسي ويؤلمها أشد الألم وإن كان البادىء أظلم، ورحم الله الشاعر العربي:
نفلق هاماً من رجال أعزة علينا وهم كانوا أعق وأظلما
والذي يضاعف هذا الألم أنه لا نتيجة لكل هذه الأعمال ولا ثمرة من وراء هذه التضحيات ولا فائدة ترجى بعد ذلك من حرق الأعصاب وتناول الأعراض بالنهج والسباب، فمن الخير كل الخير أن تدعوا هذه الحرب التي تعلمون نتيجتها بالنسبة لكم وإن أردتم الانتقام فلا خير فيه، وإن أردتم النصيحة فقد أبلغتم وعرف الناس كل ما تريدون أن تقولوا وحسبكم علم الهن، وإن أردتم وجه الله فالله عليم بذات الصدور.
وتأثر الرجل بهذا الحديث فوعدني بأنه سيحول دون نشر هذا التقرير، وأنه سيسحب أصوله من المطبعة. وانصرفت من عنده على هذا الوعد.

درس مؤثر
وأذكر أنني في أثناء هذه الحوادث ألقيت درساً على الناس موضوعه فضل صفاء القلب وحب الخير للجميع والصلح بين المتخاصمين لمناسبة من المناسبات، وخلوت بنفسي بعد الدرس فكان حوار عنيف: أتأمرون الناس بالبر وتنسون وأنفسكم؟ ما هذا؟ إن أحب الرجال إلى الله كل مخموم القلب صدوق اللسان، وإن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم.
“ألا أدلكم على أفضل من درجات الصلاة والصوم والصدقة قالوا بلى يا رسول الله قال: إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين”“فأصلحوا بينهما صلحا والصلح خير” وصدق الله ورسوله. أقول كل هذا للناس ولا أتأثر به، لا يصح أن يكون هذا أبداً ولا بد إذن من تطهير القلب وصفاء النفس، ومكافحة النفس، ومكافحة الغضب وسلطان الانتصار للنفس، ولا بد من أن أجرب ذلك عملياً في نفسي وإن كنت لم أجن ذنباً ولم أبدأ بعدوان ولكن لا بد من هذه التجربة. وتناولت القلم وكتبت إلى كبير الجماعة خطاباً أقول فيه: إنني على استعداد تام لتناسي الماضي كله وإعادتهم إلى صفوف الإخوان إن أرادوا، فإن قبلوا ذلك على قاعدة التسامح فشكر الله لهم وقد سامحت فليسامحوا، وإن أرادوا أن يكون هذا التصافي على قاعدة التحاقق فإني لذلك مستعد وأفوض لهم اختيار الحكام فليختاروا من شاءوا ولنتحاكم إليه فرداً أو جماعة وأنا من الآن قابل لحكمه كائناً من كان وذكرت لهم السبب في ذلك وهو تأثري بدرس ألقيته وخشيت بعده أن أكون من الذين قال الله فيهم” لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون”. ولكن هذا الخطاب رغم هذه العاطفة القوية التي كانت تتدفق في كل سطر من سطوره لم يؤثر بشيء بل إنني أبيت إلا أن أحمله إلى كبيرهم بنفسي في منزله وأسلمه إياه بيدي وقد ثار الإخوان لذلك ثورة عنيفة وحاولوا منعي بكل وسيلة ولكنني أصررت على رأي وأصررت على أن أذهب بهذا الخطاب منفرداً مما كان موضع دهشة الإخوان وغرابتهم ولكني كنت في الحقيقة أستشعر لذة كبرى في هذا الضعف الذي كنت أعتبره وأتصوره - ولا زلت - منتهي القوة لأنه موصول بأوامر الله.

كلمة الحق
لم تستطع كلمات هذا الخطاب أن تنفذ إلى قلوب هؤلاء الإخوان ولم يستطع وعد الرجل العاقل الذي وعدنيه أن يحول دون نشر التقرير. فقد استبد أحدهم برأيه رغم مخالفته بقيتهم، وأبى إلا أن ينشر التقرير باسمه هو وفعلاً تم الطبع وأذاع التقرير على الناس وحمله بنفسه إلى بور سعيد وأبو صوير وهي الشعب المجاورة للإسماعيلية، فوضع مجلس الإدارة ردا عليه أسماه” كلمة الحق” وما كان هذا الرد ينشر حتى تلقفه الناس، ولفتت هذه الحركة أنظارهم إلى الدعوة، وأخذوا يهتمون بكل ما يتصل بالجماعة، فكانت تلك الحركة من أكبر العوامل على الانتشار وانضمام عناصر كثيرة من الناس إلى الإخوان.

لطيفة
ومن اللطائف أننى وعدت الإخوان أعضاء مجلس الإدارة بأخذ رأيهم في رفع الأمر إلى القضاء على اعتبار أن ذلك قذف بطريق النشر، واجتمعنا في صندرة المسجد بعد العشاء. وافتتحت الجلسة وأردت أن أشرح الموضوع وإذا بأحد المصلين الذين تخلفوا بعد الجماعة يستفتح القراءة ويتلو قول الله تبارك وتعالى: “وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون* ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون* أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا، والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين*، وتمت كلمة ربك صدقا، وعدلاً، لا مبدل لكلماته، وهو السميع العليم” وأصغينا للتلاوة التي كان الرجل يرددها لنفسه ولكن بصوت مرتفع حتى إذا انتهي إلى هذه الآية الكريمة سكت. وسكت، فقال الإخوان: لماذا اجتمعنا؟ فقلت قد قضي الأمر أفغير الله أبتغي حكماً؟ وقصصت عليهم ما اجتمعنا له وقلت لهم والآن أسحب هذا الاقتراح من جدول الأعمال وحسبنا الله حكما، ولقد حكم فعدل وهو أعدل الحاكمين سبحانه.

مصير الشيخ
كل هذا والشيخ الذي يريد أن يكون رئيس الإخوان بالإسماعيلية ما زال مدرساً بمدارس الإخوان، وما زال يشرف من بعيد على إدارة هذه الفتنة، يخب فيها ويضع ولكنه كان من الحذر والاحتراس بالدرجة التي كان يتخلص فيها من كل ما ينسب إليه. ولم أرد أن آخذه بالظنة لأن هذا لا يغير من الواقع شيئا فقد تورط هؤلاء الإخوان وقضي الأمر -وكنت أرجو دائما أن يرده عقله فقد كان عاقلاً، وعلمه فقد كان عالما، وأدبه إذ كان أديبا، إلى الحق فيكون عونا لي على عودتهم بدلا من أن يكون عونا لهم على أحوالهم، ولكنه ظل يغذي هذا الشر وهو بعيد عن تبعاته حتى استشرى واستفحل وكان للصدفة فضل اكتشافه متلبسا. فقد أرقت ليلة فخرجت لصلاة الفجر بالمسجد العباسي قبل الوقت بنحو ساعة أو أكثر ومررت في الطريق على بيت أحدهم فإذا هو مضاء ونوافذه مفتحة وهناك أصوات في نقاش استرعت انتباهي فإذا الشيخ جالس وهم حوله، وهو يرسم لهم طرائق الكيد والخصام ومضيت في طريقي وأحضرته في الصباح وسألته في لطف وفي عرض حديث عن ليلته أين قضاها فقص علي قصة طويلة تنتهي بأنه قضاها في منزله، وعرجت على الفتنة وآثارها ولمحت إلى ما يقوله الناس ويتناقلونه عن نصيبه فيها، فأخذ يتبرأ من كل ذلك وينفيه عن نفسه ويتظاهر بأنه في هذا الشأن أطهر من ماء الغمام ويسوق على ذلك الأدلة والبراهين، وأنا أعجب كل العجب من قدرته على هذا السبك الغريب، وأخيراً حاول أن يقسم بالطلاق فلم أطق صبرا وأمسكت بفمه في حركة عصبية، وصرخت في وجهه: اتق الله احذر الحلف لا تقسم، ثم قلت أين كنت في الساعة كذا فظهرت البغتة على وجهه: وحاول أن يجيب فتلعثم ولم أدع له الفرصة فواجهته بالحقيقة وسقت له الدلائل وصارحته بأنني رأيته بنفسي ولم يخبرني أحد بشيء، فلم يسعه إلا الاعتراف والإقرار ولجأ إلى إظهار الندم والاستعطاف فقلت له لا بأس عليك ثق بأنني لا أفكر في أن أنال منك سوءاً أبداً، ولا أتصور أنني بالأمس كنت أمدحك وأقدمك فأصلي خلفك وأحضر درسك وأوصي الناس بذلك واليوم أذمك وأكشف عما اكتشفته منك لا أتصور هذا ولكني لا أطيق بعد اليوم أن تكون معي في دعوة أو عمل، فاختر لنفسك إما أن تبقى بالإسماعيلية وعلى أن أدبر لك عملاً بتوفيق الله ولكن خارج محيط الإخوان ولك أن تعتذر بأي عذر مقبول وإما أن تعود إلى بلدك فعلي أن أحملك إليها وأتكفل براحتك حتى تصل إلى مأمنك والله ولينا جميعاً وهو علينا شهيد. فاختار الثانية ولكنه اشترط أن أسدد عنه دينه وقد فعلت، وكتب استقالته من عمله وانقطعت صلته بالدار وبالمعهد على السواء.

قضيته ومدرسته
ولم يذهب إلى بلده كما تعهد، ولكن فوجئت ذات يوم بإعلان عن افتتاح مدرسة جديدة برياسته وإدارته وبإشراف لجنة مؤلفة من هؤلاء الخمسة معه، وفيها طعن وتجريح لجهود الإخوان ومدارسهم، فقلت جميل المهم أن يبتعد عنا وليفعل بعد ذلك ما شاء.
ولكني بعد هذا فوجئت بإعلان من المحكمة أن الشيخ يطلب مكافأته عن المدة التي قضاها بالإخوان، وهي لا تعدو مبلغاً ضئيلاً زهيداً أبى إلا أن يقتضيه عن طريق المحكمة مع أن بيدي من المستندات ما يدينه بأضعاف ما يطلب، وأبيت إلا أن أحضر إلى المحكمة بنفسي، وتقدم بدعواه فأقررت بها ولكني تقدمت إلى القاض بما بين يدي من أسانيد فاعتبرها وحكم برفض الدعوى وإلزامه بالمصروفات. ولم يطل بقاء المدرسة التي أعلن عنها فقد ماتت في مهدها، ولم يطل بقاؤه كذلك في الإسماعيلية فقد رحل عنها. وإني لأعتذر إليه فهو الآن من خيرة العلماء وأفضل الأصدقاء، وتلك أيام خلت وذكريات مضت ولعل له عذراً ونحن نلوم والله أعلم بالسرائر.

حارة نافع رقم 24

انتقلت إلى القاهرة واجتمع مجلس إدارة الإخوان بالإسماعيلية وقرر اعتبار القاهرة” المركز العام للإخوان المسلمين”، وبما أنه لم يكن للجماعة في هذا الوقت مكان مناسب خاص بها فقد قرر إخوان القاهرة اعتبار المنزل الذي أسكنه وكان الدور الأول فيه خالياً مقراً لها: حارة نافع رقم 24 المتفرعة من حارة عبد الله بك إحدى حواري شارع السروجية.

رد الفعل بالإسماعيلية

وكان الانتقال مفاجأة للإسماعيلية، فحضر من أهلها وفد ضخم وقابل وزير المعارف وكان إذ ذاك حلمي باشا عيسى، وطلب إليه إلغاء النقل، وزار هذا الوفد كذلك مدرسة عباس وقابل ناظرها. (حسنين بك رأفت رحمه الله ) وتحدث إليه في ألا يتمسك بوجودي في القاهرة، وما كدت أعلم بذلك حتى رجوتهم العدول عن فكرتهم. وأبرقت إلى وزارة المعارف برغبتي في البقاء بالقاهرة، وبأن هذا النقل إنما كان بناء على طلبي ولمصلحتي.

ولكن مخبري الجرائد سمعوا الوزير حين وعد وفد الإسماعيلية بإلغاء النقل. فصدرت جرائد الصباح ومنها هذا الخبر، وتصادف أن سافرت إلى الإسماعيلية لإحضار أسرتي فظن الأهلون أن الخبر صحيح، وأخذت جموعهم تتوافد على دار الإخوان مهنئة بالعودة وأنا ابتسم لذلك وأخبرهم بالحقيقة.

وحدث أن ناظر مدرسة عباس أطلع الوفد الإسماعيلي على خطاب ورد إليه بتوقيع الأخ الخارج على الدعوة وفيه تجريح وشتم، فتألموا لذلك ونقلوا الخبر إلى البلد. وما كدت أفارقها حتى تربص له بعض المتحمسين من الأهلين وهو في طريقه وأشبعوه ضرباً بالعصي والأيدي حتى عجز عن السير والقيام. وتقدم هو متهماً بعض الإخوان، وأبى إلا أن يتهمني معهم كمحرض على ضربه مستدلاً بوجودي بالبلد حينذاك وتحددت جلسة تبعتها جلسات، وكانت قضية أباحت لي فرصة زيارة الإسماعيلية مرات ثم انتهت بالبراءة في الابتداء والإسئناف.