هذه المدونة

بعد أن هالني حجم الكذب وتعمد قلب الحقائق التي قام بها من هم وراء مسلسل الجماعة، وتوظيف المسلسل لتشويه التاريخ، ومحاولة التأثير على المشاهدين لتكوين صورة مشوهة عن الجماعة ومؤسسها بل عن الإسلام ذاته، حاولت أن أقدم فى هذه المدونة نقلا من مذكرات الإمام حسن البنا وبعض الكتب الأخرى، حقيقة الأحداث التى قدمت بهذا التشويه الفج، وهذا الكذب الذي لا علاقة له بالإبداع على الإطلاق

الاثنين، 23 أغسطس 2010

الفتنة ... بين الحقيقة والإفتراء

لا يمكن تصور أن تكون أى جماعة من البشر - مهما تجمعت فيها من صفات حسنة - بدون خلافات، فهذا من طبائع البشر
ولا يعيب أي جماعة وجود مثل هذه الخلافات مهما زادت حتى لو وصلت إلى درجة الإنشقاق والإنفصال مادامت المجموعة الرئيسية لا تنشغل عن هدفها الرئيسي بمثل هذه الأحداث
ولنا المثل الواضح فى غزوة أحد عندما انشق عبد الله بن أبي بن سلول عن جيش المسلمين بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجع بثلث الجيش!!
ولقد أبدع السيناريست فعلا عندما تحدث فى الحلقة الثالثة عشرة عن الفتنة الأولى فى تاريخ الأخوان!! أبدع فى خلط الأوراق وقلب الحقائق وإختلاق الأحداث التى لم تحدث وذكر نصف الحقيقة على طريقة "لا تقربوا الصلاة"
فصور الأمر على أنه ثورة عدد كبير من الأعضاء على تدليس ومراوغة وسرقات حسن البنا!! وعلى سيطرته على الجمعية العمومية (!!) وعلى مجلس الإدارة "الإمعات"(!!) فى جو من الصياح والحدة، ثم ذكر أنهم سيقدمون شكوى للنيابة ثم قفز إلى النقل إلى القاهرة على أنه هروب من الإسماعيلية "لأنه أصبح غير مرغوب فيه" !!!! وأنهى الموضوع باختلاق أول حادثة عنف فى تاريخ الجماعة حيث حشد حسن البنا مجموعة من الإخوان للإعتداء على الوفد الذي جاء من الإسماعيلية لمواجهته أمام مدرسته بالقاهرة!!!
وقبل أن أنقل لكم النص الكامل لتفاصيل الذي حدث، أقدم لكم الملخص الذي يمكن لأي طفل يستطيع القراءة - عندما يقرأ أصل هذا الموضوع - أن يجد الحقائق التالية:
- الذي قام بهذا الاعتراض على تعيين الشيخ على الجداوي لم يكن من مؤسسي الجماعة ولكنه كان أحد الذين تم تعيينهم فى معهد حراء
- مجموع من قاموا بهذه الفتنة أربعة أشخاص وقد جمعهم حسن البنا فى بيته لمناقشتهم في ماذا يريدون ونفذ كل ما طلبوا (إعادة عرض الموضوع على الجمعية العمومية وإجراء انتخاب جديد لنائب المرشد)
- أجريت الانتخابات وكانت الأصوات الرافضة أربعة أصوات!!! فى مقابل أكثر من خمسمائة صوت أيدت القرار السابق لمجلس الإدارة
- بعد ذلك بدأت الفتنة الثانية عن ديون الجماعة ووضعها المالي وعالجها حسن البنا بأن جمع الدائنين وكتب على نفسه كمبيالات شخصية لهم ودعا الأخوان جميعا - ومنهم طبعا الأخوة الأربعة أصحاب الفتنة - وأعلمهم بهذا القرار
- قام أمين الصندوق (وهو أحد الأخوة الأربعة) بالاعتذار عن مهمته وسلم الخزينة الخاوية لإخوانه وهو يقول "خربانة بإذن الله" وكان رد فعل الإخوان أن قاموا بمساعدة أهل الخير بتسديد جميع الديون بل وعمرت الخزانه بفضل الله
- قام أحد الأخوة الأربعة (أمين الصندوق السابق) بتقديم بلاغ للنيابة، وأدعوكم لقراءة الحوار الرائع بين وكيل النيابة ومقدم البلاغ والذي انتهى بأن نصحه وكيل النيابة: يا فلان أنت شاب يظهر أنك مخلص ولكنك مخطئ خطأ كبيرا ونصيحتي لك أن تعود إلى جماعتك وتعمل معهم إن شئت وتدع هذه الأفكار، وإذا لم يعجبك حالهم فاقعد في بيتك وانصرف لعملك ودع الناس يعملون وهذا أفضل لك إن أردت النصيحة.
- سلك هؤلاء الأربعة بعد ذلك مسلك العرائض المجهولة التى تحذر من الأعمال السرية (!!) التى يقوم بها الإخوان، ثم تطور الأمر إلى النشرات التي تشكك فى الأموال وإنفاقها (!!) وغياب الشورى داخل الجماعة (!!) وطبعوها ووزعوها على معظم الأماكن التى يوجد بها شعب الإخوان، ورد الأخوان بإصدار "كلمة الحق" وكانت النتيجة سؤال الناس عن الإخوان وزادت نسبة إنضمام الناس للإخوان؟؟!!! (هل تُذكرك هذه الحكاية بشئ ؟؟!!)
- رغم كل ذلك ورغم معارضة الإخوان ذهب حسن البنا إلى كبيرهم فى منزله منفردا ليعرض عليه العودة والمسامحة !! وإصلاح ذات البين، ولم يلق استجابة
- الوفود التى جاءت لمدرسة عباس الأول بالقاهرة كانت لطلب عودة حسن البنا إلى الإسماعيلية وذهبت أيضا إلى وزير المعارف لإلغاء النقل
- ولا توجد على الإطلاق
واقعة الضرب التى أقحمها السيناريست أمام المدرسة فى القاهرة !! فكيف سيكون الاعتداء على وفد ضخم جاء أصلا للمطالبة بعودة حسن البنا للإسماعيلية؟؟!!
-
حادثة الضرب الوحيدة الموجودة بالمذكرات كانت فى الإسماعيلية فى غير وجود حسن البنا عندما قرأ بعض الشباب المتحمس بعض الشتائم والسباب الذي كتبه أحد الأخوة الأربعه فأوسعوه ضربا لتأديبه (وهذا خطأ بالطبع من هؤلاء الشباب).
- ويوجد فى النص العديد من التفاصيل التى توضح الحقيقة كاملة وتوضح مدى خطورة الجريمة التي يرتكبها هذا السيناريست فى حق التاريخ

وإلى نص المذكرات:

الجاه والمال
وهما دائماً أساس الخصومة وأصل النزاع ومادة الشر في هذا الوجود. ولقد ظل الإخوان بالإسماعيلية أنموذجا نقيا صافيا من الحب والامتزاج الروحي والصفاء الذي لا يكدره مكدر، يتنافسون في البذل والعمل والتضحية واحتمال المشاق في سبيل الدعوة ويسخرون بما يصادفهم في سبيلها من عقبات “يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة” حتى إذا فتحت هذه المدارس وأقيمت المنشآت وعين فيها موظفون من حملة الشهادات العالية والمؤهلات الثقافية الرسمية، لم يكن لهم من التهذيب الروحي والتربية على مناهج الدعوات وأصحابها حظ موفور وأصبح هناك عنصر غريب عن المجتمع الإخواني الممتزج المتحد الغايات والوسائل والأهداف وأصبح هؤلاء الموظفون الغرباء بأرواحهم وتفكيرهم عن هذا المحيط يتطلعون إلى مناصب الدعوة وإلى ما يظنونه مال الدعوة. ولم تكن هذه الدعوة ذات يوم صاحبة مال إذ إن مطالبها دائماً رهن على مواردها فخزينتها خاوية دائماً وإن كانت مشروعاتها ناجحة دائمة - بإذن الله - ببركة جيوب الإخوان التي تعتبر خزائن معمورة للدعوة تتحكم فيها كيف تشاء ومتى تشاء. فحلى لهؤلاء الغرباء أن يمشوا بين الإخوان بالنميمة وأن يحيكوا المؤامرات التي يستطيعون بها في زعمهم أن يصلوا إلى المناصب الرئيسية في تكوين الجماعة لا في منشآتها فقط، وأن يستولوا بذلك على مواردها وتولى كبر ذلك ورأس الدعوة إليه ورسم المناهج لتحقيقه” شيخ أريب أديب عالم فقيه لبق ذلق اللسان واضح البيان عين مدرساً بمعهد حراء” وقدرت فيه مواهبه فأسندت إليه رئاسة لجنة الحفلات وبعض الدروس في مسجد الإخوان. وكان محترماً من الجميع فتطلع إلى أن يكون رئيساً للجماعة بالإسماعيلية وبخاصة وهو يعلم أنه لا بد من أنني سأنقل يوماً من الأيام كموظف من هذا البلد الذي قضيت فيه نحو أربع سنوات إلى بلد آخر، ونسي هو أنه موظف كذلك وأنه عرضة للنقل أو الفصل أكثر مني. ولم يسلك إلى تحقيق هذه الرغبة طريقها الطبيعي وهو الإخلاص في العمل والتفاني في خدمة الدعوة، ولكنه سلك إليها الطريق الملتوية: طريق الدس والتفريق والوقيعة، فصادق بعض أعضاء مجلس الإدارة الذين يعتقد أن لهم نفوذاً بين الإخوان ومنزلة فيهم وأخذ يوثق رابطته بهم ويكثر من زيارتهم ويدعوهم إلى زيارته. ونحن جميعاً لا نرى في هذا إلا عملاً بريئًا لا غبار عليه وعلى دعوة الإخوان، وهل دعوة الإخوان إلا توثيق الروابط بين الإخوان؟!

نائب الإخوان
وكان الإخوان يخشون انتقالي من الإسماعيلية قبل أن أقيم لهم من بينهم من ينهض بأعباء الدعوة، فعرضوا علي التفكير جدياً في هذا الأمر حتى لا نفاجأ بالإنتقال، ونؤخذ على غرة، ورأيت الفكرة وجيهة، فشغلتني حيناً، وأخيراً رشحت لهذه المهمة أحدهم، وهو الأخ الشيخ علي الجداوي، وهو من أفضل الإخوان خلقاً وديناً، وعلى قدر مناسب من العلم والمعرفة، حسن التلاوة لكتاب الله، جيد المشاركة في البحث، دائم الدرس والقراءة، مع أنه من أسبق الناس استجابة للدعوة، ومن أقربهم إلى قلوب الإخوان، وأحبهم إليهم، ودعوت إلى اجتماع شامل، وعرضت على الإخوان فكرة إخوانهم من ترشيح نائب للإخوان يقوم بالعبء بإشرافي قبل أن نفاجأ بنقل، أو نحوه، فرحبوا بها جميعاً، وعرضت عليهم ترشيحي، فوافقوا عليه بالإجماع في فرح شامل، وسرور عجيب بهذا الاختيار، وتحمس بعضهم، فاقترح أن يترك الشيخ علي عمله - وقد كان يشتغل نجارا في دكان خاص به - ويعين إماماً لمسجد الإخوان، وتصرف له مكافأة تكفيه من مال الدعوة، حتى يستطيع أن يؤدي عمله على أكمل وجه، ووافق المجتمعون على هذا العرض، واستحسنته، لأني أؤمن بفائدة التفرغ للعمل، وعين للشيخ علي مكافأة ضئيلة، ورضي الرجل إذ كان معنا على التضحية لا على الغنيمة، وهي شيمة إخوان الإسماعيلية جميعا بحمد الله، وكان ينغص هذا السرور شعور واحد هو أنه إيذان بافتراقنا، ودليل على الإحساس بقرب هذا الإفتراق.

المؤامرة الأولى
ورأي الشيخ بعينيه أنه قد حيل بينه وبين ما يأمل من رياسة الإخوان بهذا الوضع، فها هو ذا نائب المرشد قد عين واختير فعلاً، فهل يسكت على ذلك، وهو يرى نفسه أكفأ وأعلم وأقدر وأكثر أهلية لهذا المنصب من هذا” النجار”؟ وأين الشيخ على الجداوي في علمه وموهبته من فضيلته، وهو يحمل شهادة العالمية من جهة، ويحسن قرض الشعر، ويجيد الخطابة والقول، ويعرف كيف ينشر الدعوة، ويتصل بالناس، وإذن فلا بد من عمل: وعمل محكم مرسوم فهو لبق حكيم، استعان بأصدقائه الذين أحكم صلته بهم من قبل، وأفرد أحدهم بأخلص صداقته، وأخذ يفتله في الذروة والغارب، ويوسوس له بالليل والنهار، ويقنعه بأنه أكفأ من أخيه، وأليق بهذا المنصب منه، وأن الأستاذ قد ظلمه حقه وغمطه تضحياته، فهو قد احتمل كثيراً، وأنفق كثيراً، وجاهد كثيراً، وأخلص للأستاذ أعظم الإخلاص، ووضع ماله وحياته ومستقبله وأهله فداءً له وللدعوة، وماذا فعل الشيخ من هذا كله؟ لا لشيء أبداً، فهو لم ينفق، ولم يجاهد، ولم يخلص مثل هذا الإخلاص، فكيف يتخلى الأستاذ أخلص الناس له وللدعوة ليرشح من هو أقل منه إخلاصاً، وأضأل منه شأناً، هذا ظلم مبين. ذلك فضلاً عن أن اجتماع الجمعية العمومية لم يكن قانونياً، فقد جاء مفاجئاً ولم تصل الدعوة لكثير من الأعضاء الذين إن حضروا كان يحتمل أن يكون لهم رأي آخر، وهذا غمط لحق هؤلاء في التصويت وفي إبداء الرأي.
وكيف يتقاضى الشيخ مكافأة على إمامة المسجد قدرها ثلاثة جنيهات، والجمعية مدينة، وقد بقي عليها من نفقات المسجد والمدرسة والمنشآت أكثر من ثلاثمائة وخمسين جنيهاً، مع أن فضيلة الشيخ مستعد لأن يقوم هو بهذه الإمامة متطوعاً على عمله بالمعهد، أو بمكافأة يسيرة لا تتجاوز خمسين قرشاً في الشهر وهكذا بمثل هذا القول المعسول الذي ظاهره فيه الرحمة، وباطنه من قبله العذاب، والذي لا يقصد من ورائه إلا فتح ثغرة في القرار السابق تكون سبيلا لنقضه، وما يريد الشيخ أن تسند إلا إليه، وما هذا الأخ الطيب القلب إلا مطية لأغراضه وغاياته وأصغى الأخ إلى وسوسة الشيخ، وامتلأت بها نفسه وإن لإبليس لأصدقاء ومعاونين لعلهم أنفذ منه قولاً، وأشد حولاً، وأبعد طولاً، وأقرب إلى النفوس. نعوذ بالله من كل وسواس خناس من الجنة والناس، وأفضى بهذا القول إلى بعض أصدقائه من الإخوان، فمنهم من نصح له، ومنهم من أشفق عليه وتأثر بقوله. وفشا في الإخوان هذا القول، وشعرت به، فعلمت من أين هبت الريح، وأحضرت هذا الأخ، ونصحت له، ولكنه كان قد امتلأ إلى نهاية تفكيره، واستغرقته فكرة أولويته، وزين له الشيطان أن في ذلك مصلحة الدعوة، وأنه يتشدد لا لنفسه ولكن للمصلحة العامة، وهذا هو المنفذ الذي ينفذ منه الشيطان دائماً إلى نفوس المؤمنين ليفسد عليهم صدق إيمانهم وطهر قلوبهم، وتشيع لهذا الأخ ثلاثة من أصدقائه كان العامل الأول في تشيعهم له صداقته لهم، ثم انضم إلى ذلك وسوسة الشيخ لهم ونفورهم الطبيعي من الشيخ علي، وحسدهم إياه على ما وصل إليه، وشعار ذلك كله مصلحة الدعوة والحرص عليها.
فأردت أن أقضي على لا الفتنة من أساسها، ولا أدع لهم عذرا، إذ كنت حريصاً عليهم حسن الظن بهم، مقدراً لسابقتهم في الدعوة، وخدمتهم إياها، وتضحيتهم في سبيلها، معتقدا أن الحصول على أمثال هؤلاء الجنود الذين نهلوا من مناهل الدعوة، وشبوا في أحضانها عسير عزيز يتطلب مجهوداً آخر، وكفاحاً آخر، وتربية تستنفذ وقتاً، وتتطلب عناءً. وبعد ذلك كله فهناك الوفاء للاخوة والحب للإخوان والعطف عليهم وما أجلى هذه المعاني وأوضحها في وصف الله تبارك وتعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام” عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم”.
ومن واجب أصحاب الدعوات أن يتحروا هذه الأخلاق النبوية، وأن يكون لهم. في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فيعز عليهم ما يصيب المؤمنين من عنت، ويحرصون على أخوتهم، وسلامة نفوسهم أشد الحرص، ويكونون بهم ذوي رأفة ورحمة. لهذه الحيثيات جميعاً لم أرد أن أؤاخذهم بقسوة، أو أعاجلهم بعقوبة، أو أباعد بينهم وبين إخوانهم بإقصاء، أو فصل، ولكني آثرت التي هي أفضل وأجمل، فجمعتهم عندي، وسألتهم ماذا تريدون؟ فقالوا: نريد ألا تسند مهمة النيابة عنك إلى هذا الأخ، فقلت.: جميل أنتم تريدون هذا، ولكن إخوانكم قد أرادوا غيره، واختاروه، وأسندوا إليه هذه المهمة، فإذا نفذت إرادتكم خالفت إرادة إخوانكم، فقالوا: لا، إنهم لم يكونوا جميعاً حاضرين، ولو حضروا جميعاً لكان لهم رأي آخر، وكانت الدعوة مفاجئة، ولم يكن المقصود منها معلوماً، فقلت: وهل إذا جددنا الدعوة للجميع، وأعلنا الغرض منها، وتركنا لكل إنسان الحرية الكاملة في أن يقول رأيه تنزلون عند رأي الجماعة؟ قالوا: نعم. قلت: جميل لم نخسر شيئا؟ إذن فلنعاهد الله على هذا، وعاهدنا الله، واتفقنا على الموعد، ووجهنا الدعوة موضحاً بها الغرض من الاجتماع، والواقع أن هذا المظهر كان جديداً وغريباً على أوضاع الإخوان التي لم تعرف إلا الوحدة الكاملة، والاندماج التام، فرأي أحدهم هو رأي جميعهم، يتمثل فيهم قول نبيهم عليه الصلاة والسلام: “ ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد”. وقوله عليه الصلاة والسلام: “ المسلمون عدول بعضهم على بعض يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم”. ولكن أخذت به إيثاراً للحسنى وسداً للذريعة، واجتمعنا وكنت أعلم من نفوسهم فوق ما أعلنوا، فأوعزت إلى الأخ الشيخ علي أنه إذا ظهرت نتيجة الانتخابات في جانبه أن يعلن تنازله عن مرتبه، وأنه سيعمل في المسجد متطوعاً. وقد كان: اجتمع الإخوان، وظهرت نتيجة الانتخابات، فإذا هي إجماع رائع عدا أصوات هؤلاء فقط على اختيار أخيهم الشيخ علي، وإذا به يفاجئهم بهذا الإعلان في تأثر عميق نال من نفوسهم جميعاً، وأخذوا يستغربون لموقفه هذا، وموقف هذا العدد منه، أربعة يأبون إلا أن يفرضوا أنفسهم على أكثر من خمسمائة، فإذا لم ينفذ رأيهم كان الخمسمائة مخطئين، لأن الأربعة يأبون إلا أن يكونوا في نظر أنفسهم مصيبين، وهذا من أغرب الأوضاع في الجماعات، ولقد كان الإسلام حكيماً أعظم الحكمة في وصيته بأخذ مثل هؤلاء الخوارج على رأي الجماعة بمنتهى الحزم” من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يشق عصاكم فاضربوه بالسيف كائناً من كان”. ولكنا تأثرنا إلى حد كبير بالنظم المائعة التي يسترونها بألفاظ الديمقراطية والحرية الشخصية، وما كانت الديمقراطية، ولا الحرية يوما من الأيام معناهما تفكيك الوحدة والعبث بحرية الآخرين.
كان موقف الإخوان رائعاً فقد تكاثروا علي بعد هذه الجلسة يقدمون إلي من أموالهم ما يصح أن يكون رأس مال لأخيهم الذي ترك عمله وأبى إلا أن يعمل متطوعاً، ولكني طمأنتهم عليه وأخبرتهم بأننا لن ندع الأمر، بل سنترك له دكاناً من دكاكين المسجد يفتحه ليتاجر أو يصنع ويكون في الوقت نفسه بجوار المسجد والدار ودعوت لهم بخير وحسبت أن الأمر سيقف عند هذا الحد.

المؤامرة الثانية
ولكن النفوس إذا تمكن منها الهوى في ناحية فإنه يعميها عن الخير ويصم أذنها عن الحق وكذلك كان، فما انتهينا من هذا الموقف حتى اجتمع هؤلاء الإخوان إلى شيخهم وأخذوا يتدارسون ما حدث ولم يكن في جانبهم طبعاً فهداهم التفكير إلى أن يذيعوا عن الدعوة والجماعة السوء في ثوب النصيحة والإشفاق، فانطلقوا يشيعون أن ترك الأستاذ للعمل في هذا الوقت بين يدي أحد الإخوان كائناً من كان فيه خطورة على الدعوة، فإن الجماعة مدينة للتجار بثلاثمائة وخمسين جنيهاً من بقية نفقات بناء المسجد والدار وإذا شعر التجار والناس بهذا فإنهم سيطالبون بديونهم ويتوقف الكثير منهم عن مساعدتهم وتلوك الألسنة سمعتنا بالباطل وخصوصاً وليس في الجمعية شيء، وهل يستطيع النائب الجديد أن ينهض بكل هذه الأعباء وخصوصاً إذا انتقل الأستاذ وترك الجماعة مثقلة بهذا العبء؟! أليس من الخير أن نختار لهذه النيابة رجل من الأقوياء الأغنياء ليرد عن الدعوة هذا الشر؟!، وسمعت هذا النبأ وفشا في الإخوان وفي الناس وتحدثوا به في مجالسهم وحملت هذا القول من قائليه على وجه الإشفاق والنصيحة أخذا بحسن الظن وإيثارا للجميل وبعدا عن التورط في الاتهام بالباطل.
وأردت أن أعالج الأمر على طريقتي فدعوت أصحاب الدين وكانوا ثلاثة أو أربعة من التجار وعرضت عليهم أن توحد هذه الديون باسم واحد منهم فقبلوا. فعرضت على هذا الواحد أن يقبل مني تقسيط دينه على فترة طويلة بحيث أدفع له كل شهر ثمانية جنيهات فقبل. وكتبت له كمبيالات شخصية على نفسي بكل مبلغه على هذه الطريقة وأخذت منه مخالصة بأنه ليس له عند الجمعية شيء أبداً وضممتها إلى مخالصات غيره من التجار بحيث لم تبق الجماعة مدينة لأحد بمليم. ودعوت الإخوان جميعاً ومنهم هؤلاء الأربعة المخالفون وعرضت عليهم الأمر فسقط في أيديهم وأرادوا أن يتعللوا بالمعاذير وقالوا ولم تحمل نفسك هذا العناء؟
وهل من المروءة أن ندعك تتحمله؟ وهل هذا جزاؤك على عمل الخير؟. ولنفرض أنه عرض لك ما يمنع السداد فيكف يكون الحال؟ فقلت: أما نفسي فدعوها وشأنها وأما العجز عن السداد فقد وضعت الأقساط على طريقة تمكنني من انسداد إن شاء الله وقد قبل التاجر وجزاه الله خيراً، وما أنا في هذا كله إلا واحد من المسلمين عليه أن يبذل في سبيل دينه وأمته فلا تحملوا همي ولكن حسبنا ألا يقال إننا عاجزون عن السداد أو أن فينا فتنة، وحسبنا أن تظل هذه الوحدة التي توثقت بروح الله على الحق والإيمان. فلم يسعهم أن يفعلوا شيئاً أو يقولوا شيئاً وكل الذي استطاعوا عمله أن أحدهم وقد كان أمينا للخزينة رغب أن يسلم الخزينة لغيره فقبلنا منه وأسندنا الأمر لسواه. ولا أزال أذكره وقد أخرج الدرج وقلبه ظهرا لبطن وبطناً لظهر وسلمه لأخيه مع المفتاح وهو يقول له تفضل “خربانة بإذن الله” فقلت له في تأثر عميق: لا يا أخي لكن” عمرانه بفضل الله” وانصرفوا، ولقد عمرت خزينة الإخوان بعد ذلك ما شاء الله لها أن تعمر وامتلأت بالخير فعلاً من فضل الله وجزى الله كرام الإسماعيلية خيراً، فإنهم ما كادوا يسمعون نبأ هذا الذي حدث ويصل إليهم أنني كتبت على نفسي خمساً وأربعين كمبيالة حتى وجه إليهم الوجيه المحترم الشيخ محمد حسين الزملوط رحمه الهي الدعوة للاجتماع في منزله فاجتمعوا وتقاسموا المبلغ فيما بينهم.
وتبرعوا بأكثر من أربعمائة جنيه سددت منها هذه الكمبيالات جميعاً، وما بقي ضم إلى خزينة الجماعة وتوالت التبرعات من الإخوان فكانت رصيدا لا بأس به “ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يعلمون”.

بلاغ للنيابة
ومن الطريف أن هؤلاء الإخوان الذين أبوا إلا التمرد، خرجوا من الجلسة التي رأوا فيها كيف يتسابق إخوانهم في البذل ويفتدون الدعوة بالمال والنفس إذا طلبت منهم النفوس، وبدلاً من أن يتأثروا بهذه المظاهر الطيبة لجوا في خصومتهم ولم تزدهم هذه النماذج إلا غيظاً وحقداً، ويظهر أن النفس الإنسانية إذا ألح عليها معنى الانتصار ولو بغير الحق لم تعد تفكر فيما عداه، وإن ساقتها وسائلها الملتوية إلى الهزيمة المتكررة حتى تصل بها إلى الهزيمة التامة، ولله في خلقه شئون. ولم يكن أمامهم بعد ذلك من حيلة إلا أن يتقدم هذا الأخ إلى النيابة ببلاغ بتوقيعه، وتلك فضيلة لا أنساها له، إنه لم يشأ في يوم من الأيام أن يحارب إلا واضحاً ظاهراً، وهو أثر من آثار شجاعته الأدبية، وأثر الدعوة فيه وإن كان مخطئاً. يقول في هذا البلاغ: إن حسن أفندي البنا رئيس الإخوان المسلمين والمدرس بالمدرسة الابتدائية بالإسماعيلية يبعثر في أموال الجماعة ويبعث بها إلى القاهرة لأخيه هناك الذي يقول إنه رئيس شعبة القاهرة وإلى بور سعيد وإلى أبو صوير مع أن هذه الأموال مجموعة من الإسماعيلية، وهو من أبناء الإسماعيلية، وكان من الواجب أن تصرف في الإسماعيلية، وبما أن هذا هو حق النيابة العمومية في حماية أموال الناس وأعراضهم ودمائهم فإنه يطلب أن تتدخل النيابة وتمنع إنفاق هذه الأموال على هذا الوجه. وكان وكيل النيابة رجلاً لبقاً دقيقاً وهو فيما أذكر الأستاذ محمود مجاهد ولعله في القضاء الآن، فاستدعاه وأخذ يناقشه نقاشاً هادئاً طريفاً وقال له: هل أنت عضو في مجلس إدارة هذه الجمعية؟ فقال كنت عضواً وكنت أقوم بأعمال الخزينة فاستعفيت وقبلت استقالتي، فقال له: هل يقر مجلس الإدارة إرسال هذه النقود إلى هذه الشعب؟ فقال نعم؟ فقال له: فهل أنت عضو في الجمعية العمومية فقال إنني كنت عضوا في كل شيء ولكن الآن لا أحب أن أعرف هؤلاء الناس ولا أعتبر نفسي عضواً في أي عمل لهم، فقال له: هل تظن أن الجمعية العمومية إذا عرض عليها هذا التصرف تقره وتوافق حسن أفندي عليه؟ فقال: يا سلام، لو قال لهم إنني أخذت هذه الفلوس لنفسي لوافقوه على ذلك مسرورين لأنه سحرهم وهم يوافقونه على كل ما يعمل بدون تفكير. فقال له الرجل وإذا كان مجلس الإدارة يوافقه والجمعية العمومية توافقه وأنت لست عضواً لا في هذا ولا في ذاك فما شأنك أنت؟ وما شأن النيابة في هذا الموضوع؟ هؤلاء أناس اجتمعوا ودفعوا نقوداً ووكلوا فرداً أو أفراداً في إنفاقها ووافقوه على طريقة الإنفاق، فبأي وجه تتدخل النيابة وهم أحرار يفعلون في أموالهم ما يريدون. يا فلان أنت شاب يظهر أنك مخلص ولكنك مخطئ خطأ كبيرا ونصيحتي لك أن تعود إلى جماعتك وتعمل معهم إن شئت وتدع هذه الأفكار، وإذا لم يعجبك حالهم فاقعد في بيتك وانصرف لعملك ودع الناس يعملون وهذا أفضل لك إن أردت النصيحة. فانصرف.
وعلم الشيخ عسكريه رحمه الله بالأمر فحضر من شبراخيت وحاول التوسط ليرد هؤلاء الذين ركبوا رؤوسهم إلى صف الجماعة ولكنهم أبوا إلا العناد وكان الشيخ رحمه الله نافذ البصيرة في مثل هذه الأمور فعاد يقول لي: هؤلاء لا خير فيهم فقد فقدوا إدراكهم لسمو الدعوة، وفقدوا إيمانهم لطاعة القيادة ومن فقد هذين فلا خير فيه في صفنا، فاحتسبهم وامض في طريقك والله المستعان. وجاهرهم برأيه وعاد إلى شبراخيت وفكرت في أن أدعو مجلس الإدارة لتقرير فصلهم من الجماعة ولكنهم بادروا فأرسلوا باستقالتهم وقبلها المجلس وقضي الأمر وعلى نفسها جنت براقش.
وعز عليهم أن يروا أنفسهم بعيداً فلا يستطيعون كيداً. فأخذوا يطلقون الإشاعات ويرسلون بالعرائض المجهولة إلى الجهات المختصة من وزارة المعارف إلى البوليس إلى النيابة، ثم عمدوا إلى الذين يظنون أنهم دعائم في هذه الدعوة من أهل البلد يلقون إليهم بالأكاذيب ليصرفوهم عن الجماعة وقصدوا أول ما قصدوا إلى الشيخ محمد حسين الزملوط وألقوا إليه بفرية فقالوا: إن الإخوان قوم خطرون وعندهم من الأعمال السرية ما لو كشفته لفررت منهم ونجوت بنفسك ونحن سنبلغ عنهم الجهات المختصة ولكنا أردنا قبل ذلك أن نبلغك لتأخذ الحيطة لنفسك أولا وتستقيل منهم وتعلن استقالتك وبعدك عنهم، ومتى اطمأننا على ذلك بلغنا فلا يصيبك شيء فقال لهم: وهل أنتم واثقون مما تقولون؟ فقالوا نعم كل الثقة وقد اشتركنا فعلاً في هذه النواحي السرية، فقال الرجل وكان حصيفا عاقلاً فيه إيمان ودين وفيه صراحة وقوة أنتم الآن عندي أحد رجلين إما خائنون إذا كان الكلام صحيحاً،وإما كاذبون إذا كان باطلاً، فكيف تريدون مني أن أصدقكم وأحترمكم وأنتم خونة أو كذابون قوموا من عندي ولا أراكم بعد ذلك. ولست أنسى تلك اللحظة التي جاءني فيها متغير الوجه عليه آثار الغضب والتأثر واستأذن من ناظر المدرسة وأخذني من الفصل وخرجنا نسير بظاهر البلد وحدنا ثم كاشفني بما سمع وقال: يا فلان عد إلى البلد الآن سريعاً ورتب نفسك إذا كان ما يقوله هؤلاء الناس صحيحاً واجتهد ألا يظهر شيء من أعمالكم هذه إذا كانت لكم أعمال وإذا ظهر شيء أو سئلت في شيء فقل إنني لا صلة لي بهذه الجماعة أبداً ورئيسها هو محمد حسين، فأنت شاب لك مستقبل وأنت موظف تستطيع الحكومة أن تضايقك وأنت ضيف عندنا وقمت بهذه الدعوة لوجه الله فلا تستحق إلا كل جميل. لقد تأثرت أشد التأثر بشهامة هذا المؤمن رحمه الله، وقلت له يا سيدي اطمئن كل الإطمئنان فنحن نعمل في وضح النهار ولو كان هؤلاء الجماعة صادقين فيما يقولون لأبلغوا من زمن مضى فالخلاف بينهم وبين الجماعة ليس جديداً. وكل ما في الأمر أنهم رأوك تساعد الجماعة بجاهك ومالك وأنت رجل خير طيب محترم فأرادوا أن يحرموا الجماعة صلتك بها ويظهروها للناس بهذا المظهر المخيف وإنى لشاكر لك أعظم الشكر هذا الاستعداد الكريم وجزاك الله عن الإيمان والوفاء خيراً.
ولست أنسى كذلك قول الرجل بعد ذلك: والله يا أخي لقد سمعت عمي الشيخ عيد يقول كثيراً إنني أسأل الله ألا أموت حتى أرى عزة الإسلام وانتصار أممه وعلو أحكامه وها هو قد مات ولم ير عزة الإسلام وأنا لا أمنية لي في الحياة إلا أن أرى عزة الإسلام وأسأل الله ألا أموت حتى أرى هذه العزة، ولكنني أشعر بأن ذلك بعيد لأن قطرة الدم لا زالت غالية على المسلمين، وما دامت قطرة الدم غالية فإنهم لن يصلوا إلى شيء لأن ثمن العزة والحرية قطرة الدم فقط. القرآن يقول هذا وسيرة النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه كلها تدل على ذلك أليس كذلك؟ فقلت له: بلى.. إن ذلك حق ولا شك ولكن أطمئنك فإن الإيمان الصحيح يرخص الدماء او يغليها في الواقع لأن جزاءها عند الله العظيم، وقد أخذ الإيمان يتمكن من قلوب طائفة من عباد الله سيكون على يدها الخير والإنقاذ إن شاء الله، وسترى من هؤلاء الإخوان الناشئين كل خير والله يطيل أجلك حتى ترى عزة الإسلام فقال: ولكنهم قليل قليل جداً فقلت سيكثرون والخير في هذا القليل و” كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين” فقال بشرك الله بالخير نرجو ونسأل الله.
ولقد حدثني بعد ذلك أن وكيل النيابة سأله في عرائض قدمت له بهذا الخصوص فنصح له بإهمال كل هذه العرائض المجهولة التي لو كانت حقاً لما أخفي أصحابها أسماءهم ولواجهوا الحقيقة بأنفسهم. رحم الله الشيخ محمد حسين زملوط وجزاه خيراً.

نشرات وتقارير
لم يجد هؤلاء الأربعة أو الخمسة من سبيل بعد ذلك للكيد للجماعة إلا أن يلجئوا إلى طبع نشرات مكذوبة، وتقارير مغرضة يقولون فيها: إن حرية الرأي مفقودة في هذه الجماعة، وأنها تسير على غير نظام الشورى. والغريب أنهم ينقضون هذه الدعوى بأن يذكروا أن مظهر ذلك أن مجلس الإدارة وأن الجمعية العمومية لا تخالف للأستاذ أمراً وتطيعه طاعة عمياء، فإذا كانت الجمعية العمومية تستشار ومجلس الإدارة يستشار باعترافهم فأين فقدان الشورى؟ ومتى كان معنى الشورى وحرية الرأي المخالفة والخروج ولا بد؟ ثم يقولون بعد ذلك: إن نقود الإسماعيلية تنفق على القاهرة يرسلها الأستاذ لأخيه وعلى أبو صوير وعلى بور سعيد وكأنه حرام على أصحاب الدعوات أن يستعينوا بأحد ممن يتصل بهم مهما كان أيمانه وكفايته، وعليهم ليبرءوا من التهمة أن يقصوا هؤلاء ويقذفوا بهم من حالق مهما كان وجودهم مفيداً نافعاً لأنهم أقارب أو أخوة حتى ولو جنت عليهم هذه الصلة فأخرتهم وقدمت الناس. ويقولون إن حساب المسجد لم يعلن على الجمهور بعد ولم نعرف موارده كم بلغت ولا كيف صرفت، وأن أدوات المدرسة اشتريت بغير مناقصة وبغير طريقة قانونية، وأن من حق الرأي العام أن يحاسب القائمين على هذه الجماعة بما يفعلون. وعلمت نبأ هذا التقرير فذهبت إلى كبير الجماعة بمنزله وكان رجلاً عاقلاً أحترمه لسنه وسابقته وقلت له: بلغني أنكم اعتزمتم كذا وكذا فهل هذا صحيح؟ فحاول أن يتخلص من الإجابة ولكني أخرجت له بعض نصوص التقرير فلم ير بداً من الاعتراف فقال: نعم وهو في المطبعة الآن فقلت له حسن، لكم ما تريدون يا عم فلان أفندي ولم أجىء إليك الآن لأرجوك أن تحجز هذا التقرير أو تكف عن حملتك على الجماعة فلك رأيك وأنت وما تريد، ولكني أعلم ولا زلت أعتقد أنك رجل عاقل والأمور بنتائجها وعواقبها. ومجرد التهور واتباع شهوة الإنتقام لا يجدي شيئا فما الذي تنتظرونه من وراء تقريركم هذا؟ فقال: ننور الرأي العام وندله على الحقيقة، فقلت له لن أحاول مناقشتك في هذه الحقيقة التي تظنها والتي أعتقد أنها باطلة ولكن أقول لك هل تظن أننا عاجزون عن الرد وعن إقناع الرأي العام بأننا صادقون وأنتم غير صادقين، وليس معكم أنتم إلا مجرد الإدعاء ومعنا نحن الوثائق والمستندات وأنت يا عم فلان أعرف الناس بذلك، فحساب المسجد على يدك وشراء أدوات المدرسة باشتراكك وبرأيك وكثير من المشتريات كان عن طريقك للمسجد ولغير المسجد. وإذن فتنوير الرأي العام سيكون في جانبنا لا في جانبكم ونحن نملك من وسائله ما لا تملكون، فنحن أقوى صلة بالشعب ونستطيع أن نخطب ونكتب ونتحدث وندعو إلى اجتماعات ونقول في الدروس ونوضح في المساجد والقهاوي والشوارع، والألسنة كثيرة والحق أبلج. إن الذي يؤلمني في الأمر شيء واحد فقط هو أنني بالأمس القريب كنت أقدمك للناس كا يقدم الإبن والده في احترام وتوقير وكنت أقدم هؤلاء الأبناء كخلاصات من الشباب المؤمن. وموقفكم سيضطرني مكرهاً إلى الطعن والنقيصة ورميكم بالأكاذيب والبهتان والخيانة والمروق والخروج على الحق وعلى الدعوة.. إلخ من هذه الألفاظ والتهم التي لا يعجز عنها أحد. تصور أن هذا المظهر وحده يحز في نفسي ويؤلمها أشد الألم وإن كان البادىء أظلم، ورحم الله الشاعر العربي:
نفلق هاماً من رجال أعزة علينا وهم كانوا أعق وأظلما
والذي يضاعف هذا الألم أنه لا نتيجة لكل هذه الأعمال ولا ثمرة من وراء هذه التضحيات ولا فائدة ترجى بعد ذلك من حرق الأعصاب وتناول الأعراض بالنهج والسباب، فمن الخير كل الخير أن تدعوا هذه الحرب التي تعلمون نتيجتها بالنسبة لكم وإن أردتم الانتقام فلا خير فيه، وإن أردتم النصيحة فقد أبلغتم وعرف الناس كل ما تريدون أن تقولوا وحسبكم علم الهن، وإن أردتم وجه الله فالله عليم بذات الصدور.
وتأثر الرجل بهذا الحديث فوعدني بأنه سيحول دون نشر هذا التقرير، وأنه سيسحب أصوله من المطبعة. وانصرفت من عنده على هذا الوعد.

درس مؤثر
وأذكر أنني في أثناء هذه الحوادث ألقيت درساً على الناس موضوعه فضل صفاء القلب وحب الخير للجميع والصلح بين المتخاصمين لمناسبة من المناسبات، وخلوت بنفسي بعد الدرس فكان حوار عنيف: أتأمرون الناس بالبر وتنسون وأنفسكم؟ ما هذا؟ إن أحب الرجال إلى الله كل مخموم القلب صدوق اللسان، وإن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم.
“ألا أدلكم على أفضل من درجات الصلاة والصوم والصدقة قالوا بلى يا رسول الله قال: إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين”“فأصلحوا بينهما صلحا والصلح خير” وصدق الله ورسوله. أقول كل هذا للناس ولا أتأثر به، لا يصح أن يكون هذا أبداً ولا بد إذن من تطهير القلب وصفاء النفس، ومكافحة النفس، ومكافحة الغضب وسلطان الانتصار للنفس، ولا بد من أن أجرب ذلك عملياً في نفسي وإن كنت لم أجن ذنباً ولم أبدأ بعدوان ولكن لا بد من هذه التجربة. وتناولت القلم وكتبت إلى كبير الجماعة خطاباً أقول فيه: إنني على استعداد تام لتناسي الماضي كله وإعادتهم إلى صفوف الإخوان إن أرادوا، فإن قبلوا ذلك على قاعدة التسامح فشكر الله لهم وقد سامحت فليسامحوا، وإن أرادوا أن يكون هذا التصافي على قاعدة التحاقق فإني لذلك مستعد وأفوض لهم اختيار الحكام فليختاروا من شاءوا ولنتحاكم إليه فرداً أو جماعة وأنا من الآن قابل لحكمه كائناً من كان وذكرت لهم السبب في ذلك وهو تأثري بدرس ألقيته وخشيت بعده أن أكون من الذين قال الله فيهم” لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون”. ولكن هذا الخطاب رغم هذه العاطفة القوية التي كانت تتدفق في كل سطر من سطوره لم يؤثر بشيء بل إنني أبيت إلا أن أحمله إلى كبيرهم بنفسي في منزله وأسلمه إياه بيدي وقد ثار الإخوان لذلك ثورة عنيفة وحاولوا منعي بكل وسيلة ولكنني أصررت على رأي وأصررت على أن أذهب بهذا الخطاب منفرداً مما كان موضع دهشة الإخوان وغرابتهم ولكني كنت في الحقيقة أستشعر لذة كبرى في هذا الضعف الذي كنت أعتبره وأتصوره - ولا زلت - منتهي القوة لأنه موصول بأوامر الله.

كلمة الحق
لم تستطع كلمات هذا الخطاب أن تنفذ إلى قلوب هؤلاء الإخوان ولم يستطع وعد الرجل العاقل الذي وعدنيه أن يحول دون نشر التقرير. فقد استبد أحدهم برأيه رغم مخالفته بقيتهم، وأبى إلا أن ينشر التقرير باسمه هو وفعلاً تم الطبع وأذاع التقرير على الناس وحمله بنفسه إلى بور سعيد وأبو صوير وهي الشعب المجاورة للإسماعيلية، فوضع مجلس الإدارة ردا عليه أسماه” كلمة الحق” وما كان هذا الرد ينشر حتى تلقفه الناس، ولفتت هذه الحركة أنظارهم إلى الدعوة، وأخذوا يهتمون بكل ما يتصل بالجماعة، فكانت تلك الحركة من أكبر العوامل على الانتشار وانضمام عناصر كثيرة من الناس إلى الإخوان.

لطيفة
ومن اللطائف أننى وعدت الإخوان أعضاء مجلس الإدارة بأخذ رأيهم في رفع الأمر إلى القضاء على اعتبار أن ذلك قذف بطريق النشر، واجتمعنا في صندرة المسجد بعد العشاء. وافتتحت الجلسة وأردت أن أشرح الموضوع وإذا بأحد المصلين الذين تخلفوا بعد الجماعة يستفتح القراءة ويتلو قول الله تبارك وتعالى: “وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون* ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون* أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا، والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين*، وتمت كلمة ربك صدقا، وعدلاً، لا مبدل لكلماته، وهو السميع العليم” وأصغينا للتلاوة التي كان الرجل يرددها لنفسه ولكن بصوت مرتفع حتى إذا انتهي إلى هذه الآية الكريمة سكت. وسكت، فقال الإخوان: لماذا اجتمعنا؟ فقلت قد قضي الأمر أفغير الله أبتغي حكماً؟ وقصصت عليهم ما اجتمعنا له وقلت لهم والآن أسحب هذا الاقتراح من جدول الأعمال وحسبنا الله حكما، ولقد حكم فعدل وهو أعدل الحاكمين سبحانه.

مصير الشيخ
كل هذا والشيخ الذي يريد أن يكون رئيس الإخوان بالإسماعيلية ما زال مدرساً بمدارس الإخوان، وما زال يشرف من بعيد على إدارة هذه الفتنة، يخب فيها ويضع ولكنه كان من الحذر والاحتراس بالدرجة التي كان يتخلص فيها من كل ما ينسب إليه. ولم أرد أن آخذه بالظنة لأن هذا لا يغير من الواقع شيئا فقد تورط هؤلاء الإخوان وقضي الأمر -وكنت أرجو دائما أن يرده عقله فقد كان عاقلاً، وعلمه فقد كان عالما، وأدبه إذ كان أديبا، إلى الحق فيكون عونا لي على عودتهم بدلا من أن يكون عونا لهم على أحوالهم، ولكنه ظل يغذي هذا الشر وهو بعيد عن تبعاته حتى استشرى واستفحل وكان للصدفة فضل اكتشافه متلبسا. فقد أرقت ليلة فخرجت لصلاة الفجر بالمسجد العباسي قبل الوقت بنحو ساعة أو أكثر ومررت في الطريق على بيت أحدهم فإذا هو مضاء ونوافذه مفتحة وهناك أصوات في نقاش استرعت انتباهي فإذا الشيخ جالس وهم حوله، وهو يرسم لهم طرائق الكيد والخصام ومضيت في طريقي وأحضرته في الصباح وسألته في لطف وفي عرض حديث عن ليلته أين قضاها فقص علي قصة طويلة تنتهي بأنه قضاها في منزله، وعرجت على الفتنة وآثارها ولمحت إلى ما يقوله الناس ويتناقلونه عن نصيبه فيها، فأخذ يتبرأ من كل ذلك وينفيه عن نفسه ويتظاهر بأنه في هذا الشأن أطهر من ماء الغمام ويسوق على ذلك الأدلة والبراهين، وأنا أعجب كل العجب من قدرته على هذا السبك الغريب، وأخيراً حاول أن يقسم بالطلاق فلم أطق صبرا وأمسكت بفمه في حركة عصبية، وصرخت في وجهه: اتق الله احذر الحلف لا تقسم، ثم قلت أين كنت في الساعة كذا فظهرت البغتة على وجهه: وحاول أن يجيب فتلعثم ولم أدع له الفرصة فواجهته بالحقيقة وسقت له الدلائل وصارحته بأنني رأيته بنفسي ولم يخبرني أحد بشيء، فلم يسعه إلا الاعتراف والإقرار ولجأ إلى إظهار الندم والاستعطاف فقلت له لا بأس عليك ثق بأنني لا أفكر في أن أنال منك سوءاً أبداً، ولا أتصور أنني بالأمس كنت أمدحك وأقدمك فأصلي خلفك وأحضر درسك وأوصي الناس بذلك واليوم أذمك وأكشف عما اكتشفته منك لا أتصور هذا ولكني لا أطيق بعد اليوم أن تكون معي في دعوة أو عمل، فاختر لنفسك إما أن تبقى بالإسماعيلية وعلى أن أدبر لك عملاً بتوفيق الله ولكن خارج محيط الإخوان ولك أن تعتذر بأي عذر مقبول وإما أن تعود إلى بلدك فعلي أن أحملك إليها وأتكفل براحتك حتى تصل إلى مأمنك والله ولينا جميعاً وهو علينا شهيد. فاختار الثانية ولكنه اشترط أن أسدد عنه دينه وقد فعلت، وكتب استقالته من عمله وانقطعت صلته بالدار وبالمعهد على السواء.

قضيته ومدرسته
ولم يذهب إلى بلده كما تعهد، ولكن فوجئت ذات يوم بإعلان عن افتتاح مدرسة جديدة برياسته وإدارته وبإشراف لجنة مؤلفة من هؤلاء الخمسة معه، وفيها طعن وتجريح لجهود الإخوان ومدارسهم، فقلت جميل المهم أن يبتعد عنا وليفعل بعد ذلك ما شاء.
ولكني بعد هذا فوجئت بإعلان من المحكمة أن الشيخ يطلب مكافأته عن المدة التي قضاها بالإخوان، وهي لا تعدو مبلغاً ضئيلاً زهيداً أبى إلا أن يقتضيه عن طريق المحكمة مع أن بيدي من المستندات ما يدينه بأضعاف ما يطلب، وأبيت إلا أن أحضر إلى المحكمة بنفسي، وتقدم بدعواه فأقررت بها ولكني تقدمت إلى القاض بما بين يدي من أسانيد فاعتبرها وحكم برفض الدعوى وإلزامه بالمصروفات. ولم يطل بقاء المدرسة التي أعلن عنها فقد ماتت في مهدها، ولم يطل بقاؤه كذلك في الإسماعيلية فقد رحل عنها. وإني لأعتذر إليه فهو الآن من خيرة العلماء وأفضل الأصدقاء، وتلك أيام خلت وذكريات مضت ولعل له عذراً ونحن نلوم والله أعلم بالسرائر.

حارة نافع رقم 24

انتقلت إلى القاهرة واجتمع مجلس إدارة الإخوان بالإسماعيلية وقرر اعتبار القاهرة” المركز العام للإخوان المسلمين”، وبما أنه لم يكن للجماعة في هذا الوقت مكان مناسب خاص بها فقد قرر إخوان القاهرة اعتبار المنزل الذي أسكنه وكان الدور الأول فيه خالياً مقراً لها: حارة نافع رقم 24 المتفرعة من حارة عبد الله بك إحدى حواري شارع السروجية.

رد الفعل بالإسماعيلية

وكان الانتقال مفاجأة للإسماعيلية، فحضر من أهلها وفد ضخم وقابل وزير المعارف وكان إذ ذاك حلمي باشا عيسى، وطلب إليه إلغاء النقل، وزار هذا الوفد كذلك مدرسة عباس وقابل ناظرها. (حسنين بك رأفت رحمه الله ) وتحدث إليه في ألا يتمسك بوجودي في القاهرة، وما كدت أعلم بذلك حتى رجوتهم العدول عن فكرتهم. وأبرقت إلى وزارة المعارف برغبتي في البقاء بالقاهرة، وبأن هذا النقل إنما كان بناء على طلبي ولمصلحتي.

ولكن مخبري الجرائد سمعوا الوزير حين وعد وفد الإسماعيلية بإلغاء النقل. فصدرت جرائد الصباح ومنها هذا الخبر، وتصادف أن سافرت إلى الإسماعيلية لإحضار أسرتي فظن الأهلون أن الخبر صحيح، وأخذت جموعهم تتوافد على دار الإخوان مهنئة بالعودة وأنا ابتسم لذلك وأخبرهم بالحقيقة.

وحدث أن ناظر مدرسة عباس أطلع الوفد الإسماعيلي على خطاب ورد إليه بتوقيع الأخ الخارج على الدعوة وفيه تجريح وشتم، فتألموا لذلك ونقلوا الخبر إلى البلد. وما كدت أفارقها حتى تربص له بعض المتحمسين من الأهلين وهو في طريقه وأشبعوه ضرباً بالعصي والأيدي حتى عجز عن السير والقيام. وتقدم هو متهماً بعض الإخوان، وأبى إلا أن يتهمني معهم كمحرض على ضربه مستدلاً بوجودي بالبلد حينذاك وتحددت جلسة تبعتها جلسات، وكانت قضية أباحت لي فرصة زيارة الإسماعيلية مرات ثم انتهت بالبراءة في الابتداء والإسئناف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق